<p>ما الدوافع لتنامي ظاهرة تجنب الأمومة والعداء لها من جانب النسوية خاصة في المجتمع الغربي؟</p>
ظاهرة التخلي عن الأمومة تتمدد في المجتمعات الغربية؛ إذ يُنظر للأمومة على أنها عبء من المفترض التخلص منه لإتاحة الفرصة للمرأة لتحقق حلمها الوظيفي والمالي والاستمتاع بالحياة، دون تحمل مسئولية مخلوق يجبرها على المكوث في البيت ورعايته، وتغيير نمط حياتها حسب احتياجات هذا الصغير.
لعبت الحركة النسوية دورًا كبيرًا في إقناع عدد غير قليل من النساء بتحقيق الانفصال بين الزواج وفطرة الأمومة، وزعمت النسوية أن الأمومة هي القيد الأخير الذي يجب تحطيمه من أجل إطلاق قدرات المرأة في الحياة، فعندما تتحول المرأة إلى أم -حسب منطق النسوية- فإنها تعيد إنتاج استغلال المرأة من جديد، فالأنثى يجب ألا تكون ضحية للأمومة.
منذ عامين نشرت صحف أمريكية تقريرًا يكشف عن انخفاض حجم المواليد في الولايات المتحدة على مدار ست سنوات متتالية، وتم الاستناد فيه إلى مقابلات مع عدد من النساء قررن عدم الإنجاب، ولعل هذا ما دفع نوابًا أمريكيين إلى استصدار قانون يحظر الإجهاض، ووضع قيود متعددة على الإجهاض، ففي عام 2021م مثلا تم وضع حوالي (561) قيدًا على الإجهاض، وفرضت عشرات الولايات الأمريكية حظرًا على الإجهاض، لكن الغريب أن منظمة العفو الدولية أصدرت في أغسطس 2024 بيانًا نددت فيه بالموقف الأمريكي في تقييد حرية الإجهاض، ورأت في ذلك الموقف انتهاكًا لحقوق الإنسان.
حجج التخلي عن الأمومة
قبل توضيح البعد الفكري والفلسفي في التخلي عن الأمومة، من الضروري استعراض بعض من الحجج التي يطرحها التيار المناهض للأمومة، والذي يرى في الأمومة عملية اقتصادية غير ربحية من حق المرأة التخلي عنها.
- الأمومة عقوبة: يرى التيار المناهض للأمومة أن الأمومة تشبه العقوبة المفروضة على المرأة في أماكن العمل، وتضعف من فرصها في الترقي الوظيفي والمهني، وتعيق صعودها الأكاديمي، فيوجد أكثر من 40% من أرباب العمل والمديرين يتجنبون توظيف النساء في سن الإنجاب لأنهم يرون أنهن سيحملن وينجبن أطفالاً، وهذا نوع من التمييز الوظيفي يضر بالمرأة، وبالتالي فاستبعاد النساء بسبب الأمومة اتجاه يؤثر على حق المرأة الاقتصادي، خاصة أن الدولة لا تمنح المرأة ما يعوض الفرص التي تركتها في مجال العمل بسبب الأمومة.
يضع أنصار هذا الرأي "إسفينا" بين المرأة الأم والرجل الأب، ويزعم الاتجاه أن الآباء أمامهم فرص للترقي الوظيفي أكثر من المرأة ثلاث مرات، وإذا كانت الأمومة أعظم وظيفة في العالم فلماذا لا تتحمل الدولة جزءًا من أعبائها، ولماذا لا يتحمل الرجل بعضًا من مهامها؟!
- فقدان الذات: يزعم هذا الرأي أن المرأة الأنثى تفقد ذاتها وطموحها مع الإنجاب، وقلما تنجح امرأة في تحقيق التوازن والانسجام بين قيود الأمومة ومتطلبات تحقيق الذات في مجال الحياة العملية، فالطموح يتبخر مع الأمومة، خاصة أن الطفل يقلب حياة المرأة رأسًا على عقب، وتبذل المرأة المجهودَ طيلة الليل والنهار لرعاية الأبناء، وتقضي أغلب عمرها في المطبخ والأعمال المنزلية، وهذا أكبر قاتل للطموح؛ إذ تمارس المرأة الحاصلة على درجات علمية عالية نفس الدور الذي تقوم به المرأة البسيطة في الأعمال المنزلية.
- فقدن الدعم: لا تحظى المرأة بالدعم الذي كان متوافرًا للأمهات السابقات في المحيط العائلي من الجدات والأقارب، وهذا ما يجعل رعاية الطفل عبئًا ماليًّا كبيرًا سنويًّا، يتسبب في انخفاض المستوى الاقتصادي للأسرة، وتحمل حرمان وتضحيات بلا أي مقابل سوى إشباع غريزة يمكن إسكاتها بالانغماس في تحقيق الذات أو الاستمتاع بالحياة، لذلك أخذت تتكرر عبارة "أنا أكره أن أكون أُمًّـــا" من نساء على مواقع التواصل الاجتماعي بكثرة.
النسوية والأمومة: مناقشة قضايا الأمومة يكاد يكون محظورًا في الحركة النسوية؛ فالأمومة تدحض كل الأفكار التي تجعل المرأة في تضاد مع الرجل من ناحية، وفي معاندة مع دورها الفطري في الحمل والإنجاب والرعاية، فالنسوية تنظر للمرأة ككيان منفصل يبتغي تحقيق ذاته في مواجهة الرجل.
تروج النسوية الأمريكية "شولاميت فايرستون" إلى أن النساء لن يتحررن حقًّا من السلطة الأبوية إلا بعد تحريرهن من نير الإنجاب، وعلى المرأة أن تتخلى عن فكرة وجود جنين في رحمها، وأن تحرير النساء لن يتم إلا بتحرير خضوع الجسد الأنثوي للولادة، وألا تخضع للمفهوم الأبوي للأمومة، وأن الحمل فعل "بربري".
الحقيقة أن تلك الرؤى أثرت في المجتمع الغربي والأمريكي، وأدت إلى إحجام الكثير من الفتيات والنساء عن الحمل والإنجاب وتكوين أسرة، وأصبح الطموح الأنثوي هو تحقيق الذات من خلال المهنة والمال والوظيفة.
لكن هذه الرؤى بدأت تشكل أزمة في المجتمع الغربي، لذلك ظهرت رؤى أخرى تقاومها، وتكشف زيف الأفكار التي ترتكز عليها في تحقير الأمومة والاستخفاف بدورها، منها كتاب "الأمهات والأطفال والجسم السياسي" الصادر في نوفمبر 2024 للأكاديمية "ناديا ويليامز" التي قررت التخلي عن وظيفتها المرموقة لصالح تربية أطفالها الثلاثة، وانتقدت "ويليامز" تقليل الاحترام للأمومة في مجالات الحياة الحديثة، واعتبرت ذلك نكوصًا عن المسيحية ورجوعًا إلى الوثنية التي تقلل من قيمة الحياة البشرية، وتربط بين الحياة والربح والمنفعة، وتساءلت "ويليامز" مستنكرة الانتقاص من الأمومة، قائلة وهل بعض الأرواح أكثر فائدة اقتصادية للمجتمع من غيرها؟ وهل هناك طرق لتقدير قيمة الحياة لا تعتمد على الاقتصاد على الإطلاق؟