الإيمان بالآخــــرة وإصلاح الإنسان

هل الإيمان بالآخرة ضروري في المشروع الفكري الإصلاحي؟

الإيمان بالآخرة ضرورة في أي مشروع إصلاحي فكري أو اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي، فهو يضبط موازين المشروع، يمده بقوة، وغايات تتجاوز المكاسب المادية، ويمنحه مستقبلاً عريضًا بوصل الدنيا بالآخرة، وأي مشروع يرتكز على المادية أو "الدهرية" تنتهي غاياته وأهدافه مع الموت والفناء، كذلك تغيب عن المشروع تجليات الضمير التي هي أقوى من القانون.

 

غياب الإيمان بالآخرة مأزق كبير للفكر المادي، وأي محاولة للهروب من التفكير في الآخرة تتضاءل مع اقتراب شبح الموت من الإنسان، سواء بالمرض أو الشيخوخة، عندئذ يكون هذا السؤال الوجودي أكثر إلحاحًا.

 

يزعم الفكر الحداثي أن الإيمان بالعقل حل مكان الإيمان بالغيب، لكن معاناة الإنسان المعاصر أثبتت أن "صنمية العقل" غير كافية لحقيق الطمأنينة، وهو ما حذّر منه الأديب الروسي "دستوفسكي" في رائعته "الإخوة كارمازوف" عن غياب سؤال الآخرة، وتأثيره على زيادة أعداد المنتحرين، فيقول: "هل فكرتم في العدد المروع من الشباب الذين ينتحرون في بلادنا؟ إنهم يقتلون أنفسهم بلا كلام، دون أن يتساءلوا عما سيصيرون إليه بعد الموت... لكأن مشكلة النفس الإنسانية والمصير الذي ينتظرنا في الحياة الآخرة أصبح غريبًا عن عقولهم، قد نسوا ودفنوا هذا النوع من الاهتمامات والتساؤلات منذ زمن طويل".

 

في استطلاع نشره معهد "بيو" الأمريكي لأبحاث الدين عام 2021م، ذكر أن أكثر من ثلاثة أرباع الأمريكيين البالغين يؤمنون بوجود الجنة، وأن 62% يؤمنون بوجود الجحيم، لكن الأكثر غرابة في هذا الاستطلاع هو أنه ذكر أن 26% من اللاأدريين (الذين لا ينتمون إلى دين) يؤمنون بالجنة، وأن 3% من الملحدين يؤمنون بالجنة.

 

والحقيقة أن الإنسان "مملكته الحقيقية ليست في هذا العالم" كما يؤكد الفكر المسيحي، وأن الآخرة هي دار القرار والمستقر، وأن الدنيا ما هي إلا جسر نعبر منه إلى المستقر الأخير في الآخرة، كما يؤكد الفكر الإسلامي.

 

معضلة ما بعد الموت لم يستطع الفكر المادي -منذ بدء التاريخ حتى الآن – أن ينجح في تقديم إجابة لهذا المأزق الوجودي، الذي لا توجد إجابة له إلا في الأديان، وهو ما أشار إليه أبو حامد الغزالي في كتابه "كيمياء السعادة" بقوله: "القلب مخلوق لعمل الآخرة طلبًا لسعادته".

 

تكمن أهمية الإيمان في الآخرة في أي مشروع إصلاحي، في أن من ينظرون إلى الآخرة يعيدون تشكيل حياتهم وأفكارهم وتحسين واقعهم والتعامل بإيجابية مع الحياة حتى في أشد اللحظات ألمًا، فإنهم ينجون من هوة اليأس؛ فالإيمان بالآخرة قادر على الإصلاح الأخلاقي والاجتماعي، وإيجاد ضمير يقظ في عالم السياسة والاقتصاد القائم على النهم للسلطة والربح.

 

هذه الحقيقة قديمة مع الإنسان، فتشير الدراسات التاريخية إلى أن مفاهيم الموت وما بعد الموت أي الإيمان بالآخرة كان لها تأثير كبير في حياة المصريين القدماء؛ ففي كتاب "الموتى" كانت هناك قائمة بـ(42) خطيئة سيحاسب عليها الإنسان بعد موته في الحياة الآخرة، وأن على الموتى أن يعترفوا أنهم لم يرتكبوها، وكانت تلك الفكرة المسيطرة ذات تأثير إصلاحي كبير؛ لأن تلك الخطايا الـ(42) كانت سلوكيات بغيضة مضرة بالمجتمع بشتى أركانه.

 

الإيمان بالآخرة يعيد ضبط الدنيا، فالإيمان بالآخرة مرتبط بفهم الناس للحياة الدنيا نفسها، ووجدت دراسات حديثة أن الإيمان بالحياة الآخرة يرتبط بالعديد من الخصائص النفسية، فهو يمنح الإنسان اعتقادًا وشعورًا بأن الحياة الدنيا جزء صغير من مفهوم الحياة، وهو ما يقلل من تأثير الصدمات، كما أنه يؤثر في العمل الخيري وما ينفع الناس بصور إيجابية، ويخفض مستويات اليأس الفردي والعام.

 

ومن هنا فإن الآخرة سؤال تأسيسي، وشطبها من معرفة الإنسان ما هو إلا نفي لأهم حقيقة في الوجود، وترسيخ لفساد واسع في الحياة، والإجابة عن السؤال يحل لغز الموت، فإسقاط النهايات من حسابات الإنسان هدر للمستقبل، والآخرة هي نهاية النهايات، وإغفالها تبديد لأهم مستقبل للإنسان، والإيمان العميق بالآخرة يُغير الإدراك للحياة والموت، إذ تصبح الحياة مزرعة يجتهد فيها الإنسان ليغرس ما ينفعه في مصيره القادم، ويصير الموت سبيلاً للوصول إلى تلك الأبدية، ونهاية للمعاناة والشقاء.

 

جاء في الحديث الذي رواه الترمذي: "الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت"، فالعمل للآخرة من أرقى درجات العقل، وأعمق أنواع المعرفة؛ لذا كان عالم الرياضيات المسلم "جيفري لانج" يرى أن تطورنا الروحي الأخلاقي في هذه الحياة مرتبط بشكل وثيق بوضعنا في الآخرة، فيقول: "فعندما يُوجد الإيمان بالآخرة، فإنه يتحول إلى حركة ومعرفة في الحياة الدنيا تؤثر النفع وتنثر الخير، وتبحث عن السعادة الحقيقية".

 

ولعل من أروع ما ذكر عن أهمية الآخرة كبعد معرفي، ما جاء في تفسير "في ظلال القرآن" من أن: "الإيمان بالحياة الآخرة نعمة.. نعمة يفيضها الإيمان على القلب.. نعمة يهبها الله للفرد الفاني العاني المحدود الأجل الواسع الأمل، وما يُغلق أحد على نفسه هذا المنفذ إلى الخلود إلا وحقيقة الحياة في روحه ناقصة أو مطموسة؛ فالإيمان بالآخرة - فوق أنه إيمان بعدل الله المطلق وجزائه الأوفى- هو ذاته دلالة على فيض النفس بالحيوية، وعلى امتلاء بالحياة لا يقف عند حدود الأرض، إنما يتجاوزها إلى البقاء الطليق الذي لا يعلم إلا الله مداه، وإلى المرتقى السامي الذي يتجه صُعُداً إلى جوار الله".