السلام عليكم منذ بضعة أيام جاءتني ابنتي تناقشني في منشور موجود على منصة التيك توك.. المنشور يقول إننا سبق وعشنا هذه الحياة من قبل وارتكبنا كثير من الأخطاء ثم طلبنا من ربنا فرصة أخرى قبل الحساب فكانت هذه الحياة التي نعيشها حاليا وهذا هو معنى القدر والمكتوب فكل ما نفعله الآن سبق وفعلناه من قبل وتمت كتابته.. ابنتي قالت لي إن المنشور حاز على كمية كبيرة من الإعجاب والتأييد وكل المعلقين أيدوا صاحب المنشور إلا شخصين فقط وبعضهم قدم أدلة من القرآن مثل أن هناك كثير من الآيات ذكرت في صيغة الماضي وبعضهم قال إننا بالفعل نشعر إننا عشنا هذه الحياة قبل ذلك وكثيرين قالوا: ولم لا يبدو كلام منطقي.. طبعا أنا تناقشت مع ابنتي في مضمون هذا الكلام ولكن أشعر أن هذا الموضوع يؤرقها فلقد سبق وتناقشنا كثيرا في موضوع القدر وعلاقته بالعدالة الإلهية معها ومع إخوتها وينتهي الأمر باقتناعهم وإن كنت أستشعر أن هناك جزء داخلهم مذبذب بعض الشيء وتأكد حدسي عندما يعودوا لطرح القضية ذاتها بعد فترة ولكن بصيغة جديدة أو حتى تأثير بعض الأحداث الجارية وفي النهاية جاءتني بهذا التفسير الغريب لمعنى القدر وهي وإن لم تبدي تأييدا له إلا إنني شعرت أنه يحمل لها بعض الوجاهة فهل من الممكن أن تساعدوني في كيفية الرد المقنع الذي يطمئن قلوبهم وهل من الممكن أن تكتبوا لها ولإخوتها ردا يراعي أعمارهم الصغيرة وثقافتهم التي يستمدوا جزءا كبيرا منها من منصات التواصل.
تجيب د. أميمة السيد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،
عزيزتي السائلة.. أُقدّر فيك حرصكِ على أبنائك وعقيدتهم وتوجيههم الفكري، بل وتحريكِ أهمية الفهم والبحث عن الحقيقة، كما أحيي فيكم رغبتكم في مناقشة الأمور بعقلانية.
أرى أنه من الجيد أن تتساءل ابنتك وكذا أخواتها، فالتفكير الناقد نعمة، ولكن من المهم أيضًا أن نبني قناعاتنا على أسس صحيحة ومتينة، مستعينين بعد الله تعالى، بالعلم والعقل والنقل الصحيح.. ولذلك عليك أن تتحدثي معهم بكل هدوء واحتواء قائلة:
أولًا: دعونا نحلل الفكرة منطقيًّا..
فالقول بأننا عشنا هذه الحياة من قبل وأننا نعيدها الآن يتعارض مع كثير من البديهيات العقلية، منها:
١- غياب الدليل المادي.. فلا يوجد أي دليل علمي يثبت أن الإنسان يعيش حياته أكثر من مرة، أما ما يُسمى (بالشعور بأننا رأينا الموقف من قبل) هو ظاهرة نفسية لها تفسيرات علمية، منها أن الدماغ يعالج المعلومات بطريقة تؤدي إلى الشعور بأن الأحداث مألوفة.
٢- أيضا تناقض الفكرة مع النظام الكوني.. حيث إن الكون يسير في خط زمني متقدم، وليس دائريًّا ليعود بنا إلى البداية، وإلا لما كان للحياة أي معنى أو هدف.
٣- لو كان هذا صحيحًا، لتذكر الناس حياتهم السابقة.. لكننا لا نجد أحدًا لديه ذاكرة دقيقة عن حياة سابقة، فأقصى ذاكرة لنا فقط تذكرنا ببعض المواقف الماضية منذ كنا صغارًا؛ الأمر الذي ينفي الفرضية من الأساس.
ثانيًا: إذا بحثنا عن دلائل من ديننا الحنيف فأقوى الأدلة سنجدها حتمًا في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ومنهما نستطيع أن نُجزم بالآتي:
١- أن الحياة رحلة واحدة فقط.. فالله سبحانه وتعالى أخبرنا من القرآن الكريم أن الإنسان يمر بأطوار واضحة: الحياة الدنيا، ثم الموت، ثم البعث للحساب، وليس هناك أي إشارة إلى أن الإنسان يعيش حياته أكثر من مرة في الدنيا، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}.
فإن كان هناك حياة متكررة لذُكر ذلك في القرآن الكريم، لكن ما نجده هو العكس تمامًا، حيث تؤكد الآيات أن الحساب يكون بعد الموت مباشرة.
٢- كذلك إذا نظرنا أيضا فسنجد أن هناك خطأ في الاستدلال بصيغة الماضي من القرآن:
فبعض من استشهدوا بالآيات التي وردت بصيغة الماضي - كما ذكرتِ في سؤالك - لم يفهموا القاعدة اللغوية للقرآن الكريم؛ إذ إن الله عندما يتحدث عن شيء بصيغة الماضي فهو دليل على تحقق وقوعه، وليس بالضرورة أنه قد حدث من قبل، وفي ذلك قال العلماء: إن هذا يسمى "الماضي المستقبلي"، أي أن الله تعالي يخبرنا عن شيء مؤكد الوقوع وكأنه قد حدث، مثل قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ}.
فهل نُفخ في الصور فعلًا؟ لا، لكن لأنه أمر مؤكد الحدوث، جاء بصيغة الماضي.
ثالثًا: لا بد أن تشيري إلى عدة نقاط مهمة وأنت تتحدثين معهم، لتوضحي وتصححي لهم المفاهيم المغلوطة عمّا يسألون عنه وذلك من خلال المنظور والبعد النفسي والاجتماعي للموضوع، والتي تتلخص في الآتي:
١- هناك ظاهرة في علم النفس وهي البحث عن إجابات غامضة، ولها مفهوم يسمى "Need for Closure" أي الحاجة إلى إغلاق الأسئلة المفتوحة.. فحين لا يجد الإنسان إجابة مقنعة، قد ينجذب إلى نظريات غير صحيحة لكنها تبدو مغرية لأنها تعطي تفسيرًا لأي شيء محير.
٢- هناك أيضا تأثير بالغ للعقل الجمعي Groupthink
فحين يرى الإنسان أن كثيرًا من الناس يؤيدون فكرة ما، يظن أنها صحيحة، حتى لو كانت خاطئة، وهذه ظاهرة معروفة نفسيًّا في عصر وسائل التواصل، فأي فكرة قد تحصل على تأييد واسع، لكن كثرة القائلين بها ليس بالضرورة أن يجعلها صحيحة.
٣- كذلك الرغبة في الشعور بالتميز..
فنجد أن بعض الناس يحبون اعتناق الأفكار الغريبة لأنهم يشعرون أنها تجعلهم يبدون أكثر إدراكًا وفهمًا عن غيرهم، فيقعون فيما يسمى illusory Superioritu أي التفوق الوهمي.
رابعًا: ولكي تُطمئني قلوب أبنائك، أكدي لهم على هذه المعانى الآتية دومًا من خلال حديثك اللطيف معهم:
١- ذكريهم بعدل الله تعالي.. فلا بد من الإيمان بأن الله عادل، ولا يعذب أحدًا دون أن يعطيه فرصة كافية، وأن الحياة التي نعيشها الآن هي اختبار واحد فقط، والله يعلم قدراتنا ويهيئ لكل إنسان ظروفه التي تناسبه.
٢- علميهم الهدف من الحياة.. وأننا لو كنا نعيش نفس الحياة مرات ومرات، فما الهدف؟! ففي الحقيقة، الحياة ليست "إعادة" بل هي "اختبار"، وكل واحد منا لديه فرصة واحدة لإثبات نفسه.
٣- علميهم أيضا كيفية التوازن بين العلم والإيمان!.. وأن الإسلام ليس دينًا غامضًا بل يشجع على العلم والمنطق، فحين نجد فكرة جديدة، علينا أن نختبرها بميزان العقل والنقل معًا، وهنا يتوجب عليهم الحذر من الآراء المغلوطة أو حين الاجتهاد..
قال الإمام الشافعي:
إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى ** فأولُ ما يجني عليه اجتهادهُ
فأكدي لهم بأن: "ليس كل ما يلمع ذهبًا، وليس كل ما ينتشر حقيقة".
* وأخيرًا، اهمسي لأبنائك أختي العزيزة بتلك النصائح العملية:
١- لا تتأثروا بكثرة الإعجابات على مواقع التواصل، بل وجب عليكم أن تتحروا الدقة لتتأكدوا من صحة الفكرة أولًا.
٢- اقرؤوا من مصادر موثوقة، واستشيروا أهل العلم فيما يُشكل عليكم.
٣- اعلموا أن الإسلام دين متين، فلا تترددوا في البحث، لكن بمنهجية صحيحة.
بارك الله لك في ابنتك وأخواتها، وزادكم جميعًا علمًا ونورًا وثبتكم علي الحق.
ويضيف الأستاذ فتحي عبد الستار:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ومرحبًا بك أختي الكريمة، ونشكرك على تواصلك معنا، وبعد...
فإن أسئلتك وأسئلة ابنتك تدل على عقول متفكرة وقلوب تبحث عن الحق، وهذا أمر محمود. فمن طبيعة الإنسان أن يسأل، ومن واجبنا أن نوجه هذه الأسئلة إلى نور الوحي والعقل السليم، لنصل إلى الحقيقة التي تُطمئن القلوب وتُسكِّن الأرواح.
إن طرح هذه الأسئلة يعكس أمرين مهمين: أولهما مدى تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الفكر والعقيدة؛ حيث تنتشر أفكار غير صحيحة بأساليب جذابة. وثانيهما مدى تعطش الأبناء لفهم قضية القدر وعلاقته بعدل الله، وهو أمر طبيعي؛ لأن هذه القضية من أكثر المسائل التي شغلت عقول البشر.
وما طُرح في المنشور الذي ناقشته ابنتك معك، يقوم على فكرة أننا «قد عشنا هذه الحياة من قبل، وطلبنا فرصة أخرى»! وهذه الفكرة –لا شك- غير صحيحة قولًا واحدًا، لا من الناحية العقلية ولا الناحية الشرعية.
فالأصل في الخلق أن الإنسان يأتي إلى الدنيا لأول مرة، وليس لديه سابق تجربة، ثم يعيش اختبارًا واحدًا فقط، يُحاسب عليه يوم القيامة، يقول الله تعالى: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة: 28].
وهذه الآية توضح أن المراحل التي يمر بها الإنسان هي:
1- عدم الوجود (كنتم أمواتًا).
2- الحياة الدنيا (فأحياكم).
3- الموت بعد انتهاء الاختبار (ثم يميتكم).
4- البعث والحساب (ثم يحييكم ثم إليه ترجعون).
ولا توجد في الآية أي إشارة إلى أن الإنسان يمر بتجربة دنيوية سابقة.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له» [رواه مسلم] فلو كانت هناك فرصة أخرى للعودة إلى الحياة، لما انقطع العمل بالموت!
كما أن القرآن الكريم يوضح أن الإنسان حين يرى الحقيقة بعد موته، سيتمنى لو عاد للحياة ليصلح ما أفسد، لكن هذا التمني لن يستجاب له، مما يدل على أن هذه الحياة لا تُعاد، يقول عز وجل: (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ . لَعَلِّيٓ أَعْمَلُ صَٰلِحًۭا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّآ ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا ۖ وَمِن وَرَآئِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون: 99، 100].
وكلمة (كلا) هنا تفيد النفي القاطع، أي أن العودة إلى الدنيا مستحيلة. ولو كانت فكرة «الفرصة الثانية» حقيقية، لكان هذا الإنسان قد عاش حياته مرة أخرى كما يدَّعي المنشور؛ لكنه لم ولن يُمنح ذلك!
أما عن مسألة القدر، فهو علم الله المسبق بكل شيء، وليس تكرارًا لحياة سابقة رآها الله -عز وجل- وعلم منها ما سيحدث في الحياة التالية! حاشا لله، فعلم الله شامل ومطلق من قبل، وفي الأثناء، ومن بعد؛ لكنه –سبحانه- لا يجبرنا على أفعالنا؛ بل أعطانا حرية الاختيار، ولهذا سنُحاسب على أفعالنا.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة» [رواه الترمذي].
فالله يعلم المستقبل من أفعالنا، لكنه لا يُجبرنا عليها، مثلما يعرف الأب أن ابنه إذا لعب طوال الوقت ولم يذاكر فسيلقى نتيجة سيئة في الامتحان، لكنه لم يجبره على ذلك.
أما عن سبب استخدام الفعل الماضي في القرآن الكريم لأحداث مستقبلية، فإن هذا أسلوب قرآني معروف، يُستخدم لتأكيد وقوع الأمر وكأنه قد حدث بالفعل، وهو أسلوب بلاغي معروف في اللغة العربية، يُعرف بـ«الماضي الدال على المستقبل»، ويستخدم لإظهار حتمية وقوع الأمر الذي أخبر الله عنه، مثل استخدام الماضي في الحديث عن يوم القيامة والحساب، ودخول المؤمنين الجنة، والكافرين النار، وأيضًا في الحديث عن السنن الكونية الربانية التي حدثت في الماضي ومستمر حدوثها إلى قيام الساعة.
إذن، فاستخدام الماضي في القرآن الكريم عند الحديث عن المستقبل ليس دليلاً على أننا عشناه سابقًا، بل هو أسلوب بلاغي قوي يُستخدم لتأكيد وقوع الحدث قطعًا. وهذا ينفي الفكرة التي تقول إننا نعيد حياتنا؛ لأن هذه الصياغة تهدف إلى التأكيد وليس الإخبار عن تكرار التجربة.
أما مسألة الإحساس بأننا عشنا هذه الحياة من قبل، فهو ناتج عن أمور نفسية، مثل «ظاهرة الديجافو» التي تجعل الإنسان يشعر بأنه عاش الموقف سابقًا؛ لكن هذه مجرد تفسيرات علمية –قد تصح أو لا تصح- لحالات يمر بها العقل، وليست دليلاً على أن الإنسان عاش حياة سابقة بالفعل.
ويمكن تبسيط هذه الأفكار للأبناء بطريقة تناسب أعمارهم، وفق النقاط التالية:
1- حياتنا مثل ورقة اختبار، نعيشها مرة واحدة فقط، ثم تُصحح يوم القيامة، ولا توجد فرصة لإعادة الامتحان.
2- الله يعلم ماذا سنختار، لكنه لم يجبرنا على الاختيار. مثل المعلم الذي يعرف أن الطالب المجتهد سينجح، والطالب الكسول سيرسب، لكن ذلك لا يعني أن المعلم أجبر أيًّا منهما على النتيجة.
3- استخدام الماضي في القرآن لا يعني أننا عشنا الحياة من قبل؛ بل هو أسلوب يدل على تأكيد الحدث.
وختامًا –أختي الكريمة- فإن أبناءكِ لديهم عقول مفكرة، وهذا أمر رائع، والمهم هو توجيه هذه الأسئلة إلى المصادر الصحيحة من القرآن والسنة، ويمكنكِ تشجيعهم على طرح الأسئلة، والبحث عن إجابات من العلماء الموثوقين، وعدم الاكتفاء بمحتوى وسائل التواصل الاجتماعي؛ لأن كثيرًا منها غير موثوق. أسأل الله أن يثبتهم على الحق، وينير بصائرهم، ويرزقهم الطمأنينة في قلوبهم. وتابعينا بأخبارك.