مودة المسلمين لغير المسلمين: حكمها وضوابطها

هل يمكننا تصور علاقة تقوم على المحبة والود بين المسلمين وغير المسلمين؟ وما موقف هذه العلاقة في نظر الإسلام ؟ وهل تتعارض هذه العلاقة مع نهي الله تعالى من اتخاذ هؤلاء أولياء في أكثر من موضع ؟

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:

 

فيمكننا أن نميز بين نوعين من الحب والمودة هنا، أولهما الحب الفطري أو العفوي وهو الذي ينشأ عندما يرى المسلم قيمًا معينة في هذا الكون كحب الجمال أو العقل أو العدل أو الأمانة، أو غير ذلك من القيم التي تشترك فيه الديانات السماوية والتقاليد والعادات السوية، وثانيهما الحب العقدي الذي يُبنى على الإيمان بالله تعالى.

 

وبناء على ما سبق نرى أنه لا مانع من وجود حب فطري بين المسلمين وغير المسلمين المسالمين الذين لا يحاربون الله ورسوله، ولا يحاربون المسلمين.

 

وبداية لا بد أن نفرق بين مجموعة من المفاهيم يحدث فيها لبس في عقول بعض المسلمين، وهذه الأشياء تكون سببًا في عدم الوصول إلى الحكم الفقهي الصحيح.

 

أولاً: علينا أن نفرق بين كراهية الكفر والمعاصي وكراهية أصحابها، فالمسلم لا يحب الكفر ولا يرضاه أو يقبله من أحد، لقول الله تعالى: (...وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْر..) [الزمر: 7]. ولكنه لا يكره الكافر بل يتودد إليه، ويؤلف قلبه، ويعطيه من سهم الزكاة حتى يحبب إليه الإيمان ويكره إليه الكفر والفسوق والعصيان

 

والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يفرق بين هذين الأمرين جيدًا، فكان يتعامل مع المشركين في مكة ويأخذ منهم ويعطي لهم وهو ينكر عليهم هذا الكفر ويدعوهم للإيمان، بل إنه كان يحفظ الجميل لصاحبه ويرعاه ولا ينساه له، وقد أحب عمه أبا طالب وتمنى من كل قلبه أن يهديه الله، ويشرح صدره للإسلام، وحفظ جميل المُطعم الذي دخل في جواره، وقال بعد غزوة بدر لو كان المُطعم حيًّا لوهبت له هؤلاء النتنى.

 

وتزوج صفية بنت حيي ولم تكن مسلمة، وقد أسلمت بعد ذلك رضي الله عنها، ولولا أنه كان يحبها ما تزوجها.

 

ثانيًا: علينا أن نُفرّق بين غير المسلمين المحاربين الذين يكنون العداوة والبغضاء للمسلمين، ولا يرقبون فيهم إلًّا ولا ذمة، ولا يألون جهدًا في إلحاق الأذى بهم وبين غير المسلمين المسالمين الذين يحترمون المسلمين، ويتعاملون معهم بالحسنى، فنحن عن هذا الفريق نتحدث، وإياه نقصد.

 

ولذلك جاء النهي عن ولاية غير المسلمين في سور الممتحنة مقيدًا، يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ * إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) [الممتحنة: 1- 2].

 

فالآية هنا نهت عن مودة أعداء الله؛ ليس لكفرهم فقط، ولكن لأنهم أضافوا لهذا الكفر العداوة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأنهم أخرجوا المسلمين من بلادهم بعد ما آذوهم وقد بسطوا لهم أيديهم وألسنتهم بالسوء.

 

ثالثًا: يمكننا أن نميز بين نوعين من الحب والمودة هنا، أولهما الحب الفطري أو العفوي وهو الذي ينشأ عندما يرى المسلم قيمًا معينة في هذا الكون كحب الجمال أو العقل أو العدل أو الأمانة، أو غير ذلك من القيم التي تشترك فيه الديانات السماوية والتقاليد والعادات السوية، وثانيهما الحب العقدي الذي يُبنى على الإيمان بالله تعالى.

 

وبناء على ما سبق نرى أنه لا مانع من وجود حب فطري بين المسلمين وغير المسلمين المسالمين الذين لا يحاربون الله ورسوله، ولا يحاربون المسلمين وذلك للأدلة التالية:

 

أولاً: قد أجاز الله سبحانه الزواج من أهل الكتاب، وجعل الزواج مودة ورحمة، ولا يمكننا أن نتصور علاقة تقوم بين الزوج وزوجه دون أن يكون بينهم حب، يقول الله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم: 21]، وهذه العلاقة سينتج عنها أولاد وأحفاد، وواجب على هؤلاء جميعًا صلة أجدادهم وجداتهم، وأخوالهم وخالتهم من غير المسلمين وبرهم والإحسان إليهم، وهذا نوع من المودة والحب. 

 

ثانيًا: يقول الله تعالى في سورة المجادلة: ﴿لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ [المجادلة: 22]. وهذه الآية نهت عن مودة من حاد الله ورسوله، ومفهوم المخالفة يقتضي أن من لم يحاد الله ورسوله لا يدخل في هذا النهي.

 

ثالثًا: يقول الله تعالى: ﴿هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران: 119].

 

وقد ذكر الله تعالى محبة المسلمين لغير المسلمين ولم ينههم عنها، يقول الشيخ محمد رشيد رضا ـ رحمه الله ـ في تفسير هذه الآية: (فالقرآن ينطق بأفصح عبارة وأصرحها، واصفًا المسلمين بهذا الوصف، الذي هو أثر من آثار الإسلام، وهو أنهم يحبّون أشدّ الناس عداوة لهم، الذين لا يقصّرون في إفساد أمرهم وتمنّي عنتهم، على أن بغضاءهم لهم ظاهرة، وما خفي منها أكبر مما ظهر.. أليس حبّ المؤمنين لأولئك اليهود الغادرين الكائدين، وإقرار القرآن إيّاهم على ذلك لأنه أثر من آثار الإسلام في نفوسهم، هو أقوى البراهين على أنّ هذا الدين دين حبّ ورحمة وتساهل وتسامح، لا يمكن أن يصوّب العقل نظره إلى أعلى منه في ذلك).

 

وبعد كلام طويل يقول السيد رضا: (ونتيجة هذا كله: إن الإنسان يكون في التساهل والمحبة والرحمة لإخوانه البشر على قدر تمسّكه بالإيمان الصحيح، وقربه من الحق والصواب فيه. وكيف لا يكون كذلك، والله يقول لخيار المؤمنين: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ}، فبهذا نحتج على من يزعم أن ديننا يغرينا ببغض المخالف لنا..).

 

رابعًا: الآيات كثيرة التي تفرق بين فئات من غير المسلمين، فليس كلهم على درجة واحدة من الخطورة يقول الله تعالى: (لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 13].

 

ويقول تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 75].

 

خامسًا: ليس هذا الحب أو هذه المودة فرضًا لازمًا على كل مسلم؛ فالحب والمودة عمل قلبي لا يُكره عليهم الإنسان، وقد لا يجد المسلم هذا الحب ولا المودة تجاه بعض المسلمين، لكننا نتحدث عمن يحتاج إلى هذه العلاقة كمن يجاور غير مسلم فيجد منه خلقًا حسنًا، أو يتزوج غير مسلمة فيجد معها عِشرة طيبة، فإن وجد هذا الحب والميل في قلبه لا يجزع ولا يحزن ما دام سيفرق بين بغض ما هم عليه من كفر وبعد عن طريق الحق وبين أفعالهم الطيبة.

 

والله تعالى أعلى وأعلم