السلام عليكم، ما علاقة الطبيعة بالأفكار؟ وهل إذا أصلحنا تصوراتنا نكون بذلك نقدم خطوات في إصلاح الطبيعة حولنا؟
يظن البعض خطأ أن ما نعانيه اليوم من أزمات في الطبيعة من فيضانات وجفاف وانحباس حراري وانبعاث للغازات وتصحر، ليس نتاجا لأفكارنا.
لكن الملاحظ أن الأرض والطبيعة لم يشهدا تحولات منذ خلقهما الله تعالى مثل التحولات الحالية؛ فالعقل الإنساني غيّر رؤيته للطبيعة، ثم جاءت اليد والآلات لتنفذ تلك الرؤية الجديدة، فأخذت الأخطاء تتراكم حتى تحولت لكوارث يعاني منها الإنسان نفسه، ولعل هذا ما أكده القرآن الكريم، (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: الآية 41].
تشير الكثير من الدراسات الغربية إلى أن أحد الجوانب التي تسببت في الأزمات الحالية في الطبيعة، تغير أفكار الإنسان ونظرته للطبيعة، فمع الحداثة الغربية التي آمنت بالعلم والعقل إيمانا كاملا، آمنت بمركزية الإنسان، فالإنسان بات –وفق تلك الرؤية- سيدًا ومالكًا للطبيعة، وبذلك صارت الطبيعة شيئًا يجب التغلب عليه أو استغلاله، بل "وابتزازه" بأقسى شكل ممكن لتعظيم الإنتاج والمكاسب، وهو ما أوجد استنزافًا مؤلمًا للطبيعة، فتوافقت رؤية الحداثة مع النهج الرأسمالي، فكان الاستغلال المجحف للطبيعة هو النهج المتبع بعيدًا عن أية ضغوط أخلاقية أو دينية.
وقد تأثر مفهوم التقدم، بالثورة العلمية، وصار فهم الطبيعة بعد ذلك من خلال التكنولوجيا، فسعى الإنسان لتوسيع سيطرته على الطبيعة من خلال فهمها والتلاعب بها بواسطة التكنولوجيا.
يشير مفكرون غربيون إلى أن مفهوم الطبيعة في الفكري الحداثي، المؤمن بالعقل والعلم فقط كسبيل للمعرفة، عانى من أزمة معرفية، وتنوعت استجابات مفكري الحداثة لتلك الأزمة؛ فالبعض رأى الإنسان جزءًا من الطبيعة، وبالتالي فإن سيطرته محدودة على الطبيعة، لكنّ آخرين وكان على رأسهم المفكر الشهير "ديكارت" تصور أن الإنسان قادر على تجاوز الطبيعة، بل وتحدي الخالق سبحانه، ومن ثم رأى أن ينزع الإنسان ملكية الخالق عن الطبيعة، لكن غالبية تيارات الحداثة رأت الإنسان سيدًا وحاكمًا للطبيعة، وأنه متحرر من أية قوانين أو رؤى أخلاقية، وأن على الإنسان أن يستولي على زمام الطبيعة ويقودها تجاه مصالحه ومكاسبه، لهذا أعطت الحداثة وجهها وأولوياتها للاقتصاد.
لذا كانت الرؤى التي تحترم الطبيعة، وتدعو لأخلاقيات للتعامل معها، تُعد نقيضًا للثقافة العلمية الحديثة، وكان إعادة التفكير في الطبيعة بشكل مختلف يراعي الحفاظ عليها ضد الاستغلال المجحف نوعًا من النقد للحداثة.
ومن هنا فإن أزمة الطبيعة، قبل أن تكون أزمة سلوكيات من الإنسان المعاصر، فإنها أزمة رؤية؛ فالإنسان الذي تربعت في أعماقه المادية بصورتها النفعية الجشعة، أو الاستهلاكية المفرطة، أو الغرور الراغب في السيطرة التامة، حوّل الطبيعة لقوة غير صامتة في مقاومته؛ فالإنسان عندما ينفصل عن الخالق سبحانه وتعالى وقيمه وتعاليمه، فإنه يتوحش مع كل شيء، بما في ذلك نفسه، ويسيء استخدام كل شيء، ويبدد كل شيء.
ومع الإيمان المتعاظم بالمادية أصبحت الطبيعة نقطة ارتكاز فلسفي في الفكر المادي، ما بين الإيمان المطلق بها، وبين محاولة إخضاعها، والتدخل الإكراهي في نظامها المحكم، فتحولت الطبيعة إلى مجال لذلك الإنسان المادي لتفريغ شحناته، استنزافًا أو تخريبًا وتعطيلاً، أو حتى إهمالاً.
ويمكن النظر إلى الجانب الاستهلاكي المفرط في كل شيء لدى الإنسان المعاصر، والذي يستنزف الطبيعة، ويخلق مشكلات بيئية عظيمة، على أنها تجل لهذا الإنسان المادي الذي يسعى للانتقام من الطبيعة، يقول الكاتب اليساري الأمريكي "موراي بوكشين": "الرأسمالية بطبيعتها معادية للبيئة، المنافسة والتراكم يشكلان قانون الحياة الخاص به، وهو قانون يمكن تلخيصه في عبارة "الإنتاج من أجل الإنتاج"، فأي شيء، مهما كان مقدسًا أو نادرًا، "له ثمنه" وهو لعبة عادلة للسوق، وفي مجتمع من هذا النوع، تُعامل الطبيعة بالضرورة، على أنها مجرد مصدر للنهب والاستغلال، إن تدمير العالم الطبيعي، كان نتيجة لأخطاء فادحة، يتبع بلا هوادة منطق الإنتاج الرأسمالي.
تشير الدراسات العلمية إلى أن أكثر من 70٪ من سطح الأرض قد تغير بفعل الإنسان، وأن خطر الانقراض يزحف بقوة على الكائنات الحية والنباتات، وأن 40% من النباتات مهددة بالانقراض، وأن المياه العذبة مهددة، وأن الأزمة أصابت الأنهار الكبيرة، فأكثر من 75٪ من الأنهار التي يزيد طولها عن 1000 كيلومتر لم تعد تتدفق بحرية على طول مسارها بالكامل، وأن أكثر من ثلثي المحيطات في خطر بسبب الأنشطة البشرية والنفايات، وهنا يحدث تناقص في الأحياء البحرية خاصة الأسماك المفترسة الضخمة.
واختلال التنوع البيئي، يتسبب في ظهور بعض الأوبئة أو تدهور في صحة الإنسان وثروته، وتشير الدراسات إلى أن ما يقرب من ثلاثة أرباع الأمراض المعدية الجديدة ناتج عن التفاعلات بين الإنسان والحيوان، وأن أحد المسببات الكبرى للتدهور البيئي ناتج عن أزمات المناخ، وإزالة الغابات، ومن ثم تزايدت العوامل المسببه للمرض، في ظل ضعف المناعة البشرية.
والحقيقة أن المشاكل البيئية المتزايدة الخطورة وتغير المناخ اليوم تشير إلى عدم كفاية خطاب الحداثة، الذي وضع الطبيعة في مرتبة تابعة لأهداف أخرى في مقدمتها الاقتصاد، وأثبتت العقلانية أنها غير قادرة على التحكم في الطبيعة أو حتى فهمها، كما أن النظر للتكنولوجيا وأنها منفصلة عن الأخلاق ليس خيارًا جيدًا في التعامل مع الطبيعة.
ومن هنا فإن الإيمان بالخالق -سبحانه وتعالى- هو نقطة انطلاق مركزية للحفاظ على الكون والطبيعة، وما فيها من خيرات.