الفردانية.. وتفكيك المجتمعات

السلام عليكم، لماذا أصبح الغالبية ينظرون إلى أنفسهم؟ لماذا تفشت الذاتية والأنانية؟ وما تأثير ذلك على حياتنا؟

"لا يوجد ثمن باهظ للغاية لدفعه مقابل امتياز امتلاك نفسك"

 

"الواجب الأول للإنسان هو أن يفكر بنفسه"

 

"أعظم شيء في العالم هو أن تعرف كيف تنتمي إلى نفسك"

 

"أصغر أقلية على وجه الأرض هي الفرد"

 

تلك نماذج صغيرة لما طُرح خلال القرنين الماضيين من فلاسفة ومفكرين غربيين، يرسخون فيها فكرة أن الفردانية وليس الجماعية أو المجتمعية هي النهج القادم للإنسان في الحياة مستقبلاً؛ فالدراسات الاجتماعية تؤكد أن الآحادية البشرية أو (الفردانية) ستكون بديلاً للحياة الاجتماعية، وترجع تلك الدراسات حالة التفكك الأسري والاجتماعي الذي تعاني منه الكثير من الدول والمجتمعات إلى بزوغ الفردانية بشكل واضح وتحولها إلى فلسفة ومنهج حياة لكثير من البشر.

 

تؤكد تلك الدراسات أن الفردانية أخذت في النمو مع الثورة الصناعية، وما أفرزته من هجرات للعمل في المدن بعيدًا عن الأهل والروابط الاجتماعية التقليدية، وتحمل الفرد لمسئولية نفسه، وفي تلك الفترة أخذت الأدوار التقليدية للأسرة والمؤسسة الدينية والمؤسسات الحرفية التقليدية في التراجع؛ وهو ما أفسح المجال للفردانية أن تتنفس وتهيمن على نشاط الأفراد وتعيد تشكيل الإنسان المعاصر.

 

لاحظت بعض الأبحاث أن الفردانية أصبحت تحتل مساحة كبيرة من اهتمام الإنسان، مثل انتشار المرآة، وشغف الإنسان برؤية ذاته ماثلة أمامه، وما استتبع ذلك من محاولات لتحسين الشكل الخارجي من خلال الالتزام بالموضة في الملبس والمظهر، أو حتى إجراء عمليات التجميل لتعديل صورة الشخص نحو صورة أفضل -من وجهة نظره- لإرضاء الذات نفسها، وأصبحت الموضة وسيلة كذلك لإثبات الذات وتميزها وتفضلها على غيرها، واستجلاب الاحترام من الآخرين، ومن ثم فالفرادنية كانت تحولاً فلسفيًّا وثقافية واجتماعية يعيد تشكيل الهوية على أساس الفردية، أي انتماء الفرد لذاته وليس كعنصر داخل في المجتمع.

 

وصف الفيلسوف "ألكسيس دو توكفيل" في القرن التاسع عشر الفردانية بأنها نوع من الأنانية المعتدلة التي تجعل البشر يميلون إلى الاهتمام فقط بدائرة ضيقة من الأسرة والأصدقاء، لكن أخطر ما وصف به توكفيل الفردانية أنها "تستنزف فضائل الحياة العامة".

 

وكذلك بعض الفلاسفة في ذلك القرن الذين اعتبروا الفردانية لا تعني إلا عبادة الخصوصية.. ولعل هؤلاء الفلاسفة لاحظوا التأكيد على الذات والأنانية وأنها هي الدافع للتطور والازدهار، خاصة أن بعضًا من هؤلاء لم يرَ المجتمع إلا جهازًا ضخمًا للتبادل والإنتاج.

 

كانت الفردانية تتسرب إلى جنبات المجتمع وتعيد تشكيل الفرد وعلاقاته، وكانت الدعاية لا تتوقف عن الإعلان عن الإيمان الكامل بالفرد وعقله وقدرته. وتؤكد الفلسفة الفردانية أن الفرد هو الوحدة الأساسية للقيمة الأخلاقية، ويجب احترام حقوقه وخياراته واستقلاليته قبل كل شيء، وتؤكد على الاستقلال الشخصي.

 

وتزعم الفلسفة الفردانية أن القرارات الأخلاقية ينبغي أن تستند إلى التفكير الشخصي وليس إلى المعايير المجتمعية أو الدينية، ومن ثم فهي تدعم حق الأفراد في تحديد قيمهم الخاصة، وهو ما يعني أن الأخلاق نسبية وفق هذا المنظور، ويذهب البعض إلى أن المسيحية نفسها ساهمت في وضع أسس الفردانية، من خلال حديثها عن فكرة الخلاص الشخصي.

 

يقول الفيلسوف الإنجليزي "برتراند راسل" في كتابه "ما الذي أؤمن به؟": "لم تقدس الكنيسة يومًا رجلاً لأنه نظم الموارد المالية، أو القانون الجنائي، أو النظام القضائي، إن مساهمات كهذه تخص السعادة البشرية لا تُعد مهمة، فالأخلاق المسيحية قد جعلت بنفسها بشكل كامل فردانية".

 

ثم جاء الإصلاح البروتستانتي ليؤكد تعزيز الإيمان الشخصي، وتتابعت الفلسلفات مثل الليبرالية التي دافعت عن الحقوق الفردية وخاصة حرية التعبير والفكر والعمل، باعتبارها ضرورية للنمو الشخصي والتقدم المجتمعي، ثم جاءت النزعة الاستهلاكية لتربط بين الهوية الشخصية وبين الاستهلاك.

 

ومع بداية القرن العشرين لقيت الفردانية أو الشخصانية قبولاً وانتشارًا في الفلسفة الأمريكية والفرنسية، هذا التوجه أغرى الفرد بأن تكون له رؤيته المستقلة للحياة، واستقلاله في اتخاذ قراراته ومواقفه القائمة على المتعة والمنفعة، ومما ساعد على انتشار الفردانية وجود فلسفات ومذاهب اقتصادية تشجع على ذلك، خاصة المذهب الرأسمالي.

 

يلخص "علي شريعتي" تلك الحالة بقوله: "إنهم ينادون بالحرية الفردية، ويدعونك لها من أجل تمويه الأذهان، والغفلة عن النباهة الاجتماعية، حيث يرى الإنسان نفسه حرًّا من الناحية الفردية فى غذائه وشهواته، كقفص فيه طير، وقد وُضع فى صالة مغلقة تمامًا، ثم فُتح باب القفص، إنه شعور كاذب بالحرية"، ومن ثم أصبح البشر يشجعون كل آلية وفلسفة تفرق بينهم.

 

ويرى الدكتور "طه عبد الرحمن" في كتابه "بؤس الدهرانية" أن الحداثة الغربية التي أقامت مشروعها على الدنيا والمادة سعت لتعطيل دور الدين في مجالات الحيوية، وكان الفصل إحدى أدواتها ووسائلها، وكان أبرز مجالات الفصل: الدين عن العلم، والسياسية عن الأخلاق، كذلك أصبح الفرد يعيش تصورات جزئية".

 

وعلى المستوى المادي فإن الفردانية تنمي النزعة للاستهلاك، ويؤكد الدكتور عبد الوهاب المسيري أنه "كلما ازداد الشعور بالقوة عند الكائن الحي، نراه يميل إلى الفردية والاستقلال"، والتكنولوجيا، رغم ميزاتها الضخمة، إلا أنها منحت الإنسان شعورًا طاغيًا بالقوة والقدرة والإنجاز، فعمقت بذلك الفردانية.