السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أنا شاب مؤمن بالله تعالى وموقن بعدله وحكمته، وأحاول دائمًا أن أتعلم وأفهم ديني، لكني مؤخرًا واجهت شبهة تتكرر كثيرًا من بعض الملحدين على منصات التواصل، وأجد نفسي غير قادر على تجاوزها بشكل مقنع رغم يقيني بأن لله الحكمة البالغة في كل شيء. هذه الشبهة تتعلق بمسألة التفاوت في الأرزاق بين الناس، إذ نرى في الواقع أن هناك تفاوتًا كبيرًا بين البشر في الغنى والفقر، فنجد بعض الأشخاص يعيشون في ترفٍ كبير، يملكون الأموال الطائلة، والمنازل الفارهة، والعلاقات المميزة، بينما هناك من يعيش بالكاد على قوت يومه، يعاني من الفقر المدقع، وربما لا يجد حتى ما يسد به رمقه أو يعالج به مرضه. والأمر لا يتوقف عند غير المؤمنين فقط، بل نجد هذا التفاوت حتى بين المؤمنين بالله، فهناك من هو صالح ومتدين لكنه فقير، وهناك من هو غني رغم أنه ربما أقل التزامًا دينيًا أو حتى بعيد عن الطاعات، والعكس صحيح أيضًا. السؤال الذي يطرحونه هو: لماذا لم يجعل الله الأرزاق متساوية بين الناس جميعًا حتى تكون الفرص متكافئة للجميع؟ أليس الحساب سيكون واحدًا للجميع، فلماذا يختبر الله البعض بالفقر والحاجة، بينما يعطي البعض الآخر المال الوفير والراحة؟ إذا كان الهدف هو الاختبار، فلماذا تختلف ظروف الاختبار بهذا الشكل؟ لماذا يولد طفل في أسرة غنية، وآخر في أسرة معدمة، دون أي تدخل منهما في ذلك؟ ألا يبدو هذا غير عادل من حيث المبدأ؟ أنا على يقين بأن هناك حكمة إلهية في هذا الأمر، ولكنني أحتاج إلى إجابة واضحة وعميقة تساعدني على استيعاب هذه المسألة.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، مرحبًا -أخي الكريم- وأسأل الله أن يثبتك على الإيمان، ويزيدك بصيرة في دينه، وبعد...
أعلم تمامًا أن هذا السؤال قد يثير الحيرة في قلب المؤمن، ليس لأنه يشك في عدل الله –جل وعلا- بل لأنه يسعى لفهم الحكمة الإلهية التي قد تخفى على كثير من الناس.
ومن رحمة الله أن جعل في القرآن الكريم والسنة النبوية إجابات شافية لكل ما يجول في خواطرنا، وسأحاول أن أوضح لك المسألة في السطور التالية، أسأل الله العون والتوفيق.
أولًا: هل التفاوت في الأرزاق ينافي العدل الإلهي؟
إن العدل الإلهي –أخي الحبيب- لا يُقاس بمقاييس البشر المحدودة؛ لأننا بوصفنا بشرًا مخلوقين محدودي الإدراك، نرى الأمور وفق هذا الإدراك المحدود، بينما الله -سبحانه وتعالى- يعلم كل شيء من البداية إلى النهاية، ويدبر الأمور بحكمة بالغة. ولو كانت الدنيا كلها مبنية على المساواة المطلقة في الرزق، لانتفت الحكمة من الاختبار، ولما عرفنا معاني الصبر والشكر والرضا والتعاون والرحمة.
الله -عز وجل- أخبرنا أنه هو من يوزع الأرزاق لحكمة يعلمها، فقال: ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (العنكبوت: 62). أي أن الله يعطي الرزق بقدر، ليس عشوائيًّا، وليس ظلمًا؛ بل وفق علمه الشامل بحال كل إنسان، وما يناسبه في دنياه وآخرته.
ولذلك، فإن الفكرة التي يتبناها البعض بأن العدل الإلهي يقتضي المساواة المطلقة، ليست صحيحة؛ لأن الله خلق الحياة بطبيعتها دار ابتلاء، فيها الغني والفقير، الصحيح والمريض، القوي والضعيف، وكل واحد يُختبر بما أعطاه الله.
ثانيًا: لماذا لم يوزع الله الأرزاق بالتساوي بين الناس؟
إذا تأملنا في الكون كله، فسنجد أن التفاوت سُنة إلهية في كل شيء، وليس فقط في الأرزاق المالية. فكما أن هناك تفاوتًا في الأشكال، والصحة، والعقول، والقدرات، هناك أيضًا تفاوت في المال. وهذا التفاوت ليس اعتباطيًّا، بل هو قائم على حكمة عظيمة، منها:
1- الابتلاء والاختبار:
فالدنيا دار امتحان، ولو تساوى الناس جميعًا في الغنى لما تحقق الاختبار. فالله يختبر الغني هل يشكر؟ والفقير هل يصبر؟ كما قال تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ (الأنبياء: 35).
فالغنى ليس مكافأة، والفقر ليس عقوبة؛ بل كل حالة منهما امتحان مستقل، قد يكون الفقير أقرب إلى الله بصبره، وقد يكون الغني أبعد عنه بجحوده، والعكس صحيح.
2- تحقيق التكامل بين الناس:
لو كان الجميع أغنياء، فمن سيعمل في المهن المختلفة؟ ومن سيقوم بالخدمات؟ ولو كانوا كلهم فقراء، فمن سيساعدهم؟ الحكمة من التفاوت أن يحتاج الناس بعضهم إلى بعضهم، فيكون هناك تواصل، وتراحم، وتكافل بين أفراد المجتمع. يقول الله تعالى: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ (الزخرف: 32). أي أن الله جعل بعض الناس في مراتب مختلفة حتى يعين بعضهم بعضًا، وليس ليظلم أحدًا.
3- ليست العبرة بالمال وإنما بما في القلوب:
كم من غني أهلكه ماله، وكم من فقير عاش سعيدًا بإيمانه وقناعته. المال ليس مقياس النجاح في الدنيا؛ فكم من أثرياء يعانون القلق والاكتئاب، وكم من فقراء ينامون بقلوب مطمئنة!
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس الغِنَى عن كثرة العَرَض، ولكن الغِنَى غِنَى النَّفْس» (متفق عليه). فالإنسان السعيد هو من يملأ قلبه بالرضا، وليس من يملأ جيبه بالمال.
ثالثًا: لماذا يُحاسَب الجميع الحساب نفسه رغم تفاوت أرزاقهم؟
الحساب عند الله ليس بالمال، بل بالنية والعمل. الغني سيُسأل عن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟ والفقير سيُسأل عن صبره ورضاه. النبي ﷺ قال: «لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسألَ عن أربعٍ: عن عُمرِهِ فيما أفناهُ، وعن عِلمِهِ ما عمِلَ بهِ، وعن مالِهِ مِن أينَ اكتسبَهُ وفيمَ أنفقَهُ، وعن جسدِهِ فيما أبلاهُ» (رواه الترمذي).
إذن، الغني والفقير كلاهما سيُسأل، ولكن كل واحد يُختبر في ظروفه الخاصة. الفقير ليس مطالبًا بإخراج الصدقة؛ لكنه مطالب بالصبر، والغني ليس مطلوبًا منه الصبر على الفقر؛ لكنه مطالب بالشكر وعدم البخل.
أخي الحبيب، لو تأملنا جيدًا، فسنجد أن التفاوت في الأرزاق ليس ظلمًا؛ بل هو نظام إلهي متقن لتحقيق الاختبار، والتكامل، والرحمة بين الناس. والأهم من كل ذلك أن الغِنى الحقيقي هو غِنى القلب، وليس غِنى المال، وقد قال النبي ﷺ: «مَن أصبح مِنكم آمِنًا في سربِه، مُعافًى في جسدِه، عنده قوتُ يومِه، فكأنما حيزَتْ له الدُّنيا بحذافيرِها» (رواه الترمذي).
لذلك، لا تدع هذه الشبهة تشوش إيمانك؛ بل اجعلها بابًا للتأمل والتفكر في حكمة الله، وتذكّر دائمًا أن الله أرحم بنا من أنفسنا، وأنه لا يظلم أحدًا مثقال ذرة.
أسأل الله أن يرزقك راحة القلب وطمأنينة النفس، وأن يوفقك لما يحب ويرضى.