السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، د. أميمة.. أكتب إليكِ بدموع لم تعد تجف، وقلب أثقلته الأحزان: أنا شابة أبلغ من العمر ثلاثين عامًا، أعيش في قرية صغيرة حيث تتزوج الفتيات في سن صغيرة، وينجبن أطفالًا قبل أن يبلغن العشرين، أما أنا، فأعيش وحيدة بين أحلام تبددت ومجتمع قاسٍ لا يرحم. مشكلتي تكمن في نحافتي الشديدة التي تجعلني أشعر بالخجل من نفسي، منذ سنوات مراهقتي، وأنا أسمع تعليقات لاذعة من الأقارب والجيران: "لماذا أنتِ نحيفة هكذا؟ لن يتقدم أحد للزواج منك!"، أو "ابنة فلان أنجبت طفلها الثالث، وأنتِ ما زلتِ تبحثين عن عريس!" هذه الكلمات تخترق قلبي كسهام، ومع مرور السنوات، باتت تزداد قسوة. الآن، وأنا في الثلاثين، لم يتقدم لخطبتي أحد، أشعر بالوحدة والإحباط، وألوم نفسي باستمرار على أنني لم أكن جميلة بما يكفي، أو ربما هناك خطأ ما فيّ. لقد أثرت هذه الأفكار على نفسيتي بشدة، أصبحت أعاني من قلة النوم، وتراجعت شهيتي أكثر فأكثر، وأصبحت أخشى الاختلاط بالناس خوفًا من نظراتهم وكلماتهم الجارحة. أشعر أنني عالقة في دوامة من الحزن واليأس. أرجوكِ د.أميمة، هل لي أمل في أن تتغير حياتي؟ كيف أواجه هذه الأفكار السلبية والمجتمع الذي لا يرحم؟
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،
ابنتي الحبيبة،
اسمحي لي أن أحييكِ على أمرين أولهما شجاعتك في كتابة هذه الرسالة والتعبير عما يختلج في صدرك من مشاعر؛ الأمر الذي يضعك على أولى خطوات التحرر من أزمتك النفسية.. وتحيتي الثانية لك وهي للإشادة بأسلوبك الراقي المميز في الكتابة والسرد والذي ينم عن علمك وثقافتك وعن أديبة متمكنة وكامنة داخل مشاعرك وعقلك.
إن ما تمرين به حبيبتي ليس سهلاً، وأتفهم تمامًا الألم الذي تشعرين به، لكن اسمحي لي أن أُذكّرك أن قيمتكِ الحقيقية لا تُقاس بنظرة المجتمع أو بكلمات الآخرين، بل بما تحملينه من قلب نقي وروح طيبة.
ثم قبل كل شيء فإنك إن نظرتِ للمجتمع، فستجدين أن الزواج ليس له علاقة بالنحافة أو البدانة، فهناك كثير من النحيفات زوجات وأمهات.. وهناك كثيرات من الفتيات الجميلات صاحبات الأوزان المثالية ولم يتزوجن بعد، بل أن معظم ملكات الجمال ونجمات هوليوود نحيفات بل وأحيانًا يقاس جمالهن بدرجة نحافتهن.. كذلك كثير من البشر يغبطون أصحاب النحافة ويتمنون لو أصبحوا مثلهم، فسبحان الله! ذلك هو التباين في أذواق البشر! و"لولا اختلاف الأذواق لبارت السلع".
إذًا فالمشكلة هنا ليست في نحافتك ولكنها تكمن في عدم رضاكِ عن نفسك وتقبلك لشكلك وتقديرك لذاتك، والدليل ذكرك: بأنك تلومين نفسك وتحملينها سبب عدم زواجك لأنك لم تكوني جميلة بالقدر الكافي!! فكيف تقولين هذا؟! في حين أن الله تعالى هو من خلقك واختار لك هذا التكوين وتلك الملامح، وهو وحده عز وجل، الذي يُقدر لكل إنسان أن يتزوج أو لا يتزوج، وعلى الإنسان أن يثق في أن أقدار الله تعالى كلها له خير.
من رسالتك، يبدو لي أنكِ تعانين من عدة مشاكل نفسية، سأطرحها هنا كي نبدأ معًا معالجتها لتتخلصي منها بعون الله تعالى:
1- انخفاض احترام الذات (Low Self-Esteem): تشعرين بأن قيمتك مرتبطة بوزنك أو حالتك الاجتماعية، وهذا تصور بالطبع خاطئ.
2- القلق الاجتماعي (Social Anxiety): فتجنبك للاختلاط بالناس ناتج عن خوفك من حكمهم عليكِ.
3- الإحباط والاكتئاب (Depression): الأعراض التي وصفتِها، مثل الأرق وفقدان الشهية، قد تكون علامات على درجة من درجات الاكتئاب.
▪ ولهذا فإن نصائحي لك للتعامل مع نفسك وما يحدث معك من الآخرين كالتالي:
أولا: تقبلي ذاتكِ كما أنتِ (Self-Acceptance) ..فالجمال غاليتي أمرًا نسبيًّا وتختلف نظرته وسماته من شخص لآخر، وهو ليس فقط في الشكل الخارجي، بل في الأخلاق والروح والمعاملات.
قال الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}، أنتِ مكرمة ومميزة في عين الله، فلا تجعلي كلمات البشر تُضعف من شأنكِ.
ثانيًا: تعزيز احترام الذات(Boosting Self-Esteem) ، ركزي على نقاط قوتكِ، مثل مهاراتكِ أو مواهبكِ. اكتبي قائمة بالأشياء التي تُحبينها في نفسكِ، ثم ابتعدي عن المقارنة مع الآخرين؛ فلكل إنسان طبيعة وظروف مختلفة، قال النبي ﷺ: "انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم".
ثالثًا: تجاهل كل ما هو مؤذ أو محبط.. وهو رد الفعل الأهم في التعامل مع تعليقات المجتمع.. فلا تُعطي قيمة مفرطة لكلام الناس، وذكّري نفسكِ أن رضا الله أهم من رضا البشر.
استخدمي الردود الهادئة والواثقة عند سماعك للتعليقات التي تستائين منها، مثل: "أنا راضية بنفسي، وأعمل على تحسين حياتي".
رابعًا: ضرورة اهتمامك بالتغذية السليمة والصحة النفسية.. فقد تكون نحافتكِ مرتبطة بعوامل صحية أو نفسية، ولذلك من المهم أن تستشيري طبيبًا متخصصًا في التغذية للتأكد من عدم وجود مشاكل عضوية.. واعملي على تحسين شهيتكِ من خلال تناول أطعمة غنية بالمغذيات وشرب العصائر الطبيعية.
خامسًا: قد تحتاجين إلى متابعة مع إخصائي نفسي لعدة جلسات لمساعدتكِ على تجاوز الأفكار السلبية وبناء صورة إيجابية عن نفسكِ.
ولتتذكّري غاليتى أن: الزواج رزق من عند الله، وليس هناك سن محددة لهذا الرزق، فلقد قال الله تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}.
والحمد لله أن اختار لك الخير؛ ففي الوقت الذي أنت فيه حزينة وناقمة، بسبب تأخر زواجك، فربما أخريات من مثيلاتك في العمر تزوجن في سن صغيرة ولم يوفقن في زواجهن حتى بعد الإنجاب، بل ويتعرضن لمشاكل ليس لها حصر -والأمثلة على ذلك كثيرة- فثقي أن الله تعالى قد اختار لك الأفضل، فلقد قال تعالى: {... فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}.
وأوصيك أيضًا بألا تنقطعي عن الدعاء بثقة في الله تعالى؛ فالدعاء يغير الأقدار وهو السحر الحلال حبيبتى، والزوج الصالح يأتي في الوقت الذي يريده الله، وليس كما يريد الناس.
▪ والآن إليكِ أيضا خطواتٍ عملية لتعزيز حالتك النفسية والاجتماعية معًا:
1- من المفيد انخراطك في الأنشطة الاجتماعية.. فحاولي أن تنضمي إلى مجموعات أو أنشطة تطوعية تساعدكِ على بناء علاقات جديدة.
2- الرياضة والأنشطة الجسدية مهمة جدًّا للجميع، وخاصة في ظروفك، فهي لا تساعدك فقط على تحسين صحتكِ، بل تزيد من هرمونات السعادة (Endorphins).
3- دربي نفسك على التفكير الإيجابي(Positive Thinking) ، وذلك باستبدال بالأفكار السلبية أخرى إيجابية، على سبيل المثال: بدلاً من التفكير بـ"أنا غير جميلة"، قولي: "أنا أعمل على أن أكون أفضل نسخة من نفسي"، وبالفعل اعملي دائمًا على التطوير من ذاتك، فهنا يتبلور جمال الشخصية.
* وهمسة أخيرة إلى قلبك غاليتي:
أنتِ لستِ وحدكِ في هذه الرحلة، فالله سبحانه وتعالى معكِ.
كوني قوية، وتذكري أن قيمتكِ لا تُقاس بوزنكِ أو حالتكِ الاجتماعية أو المادية، بل بمدى إيمانكِ وعملكِ الصالح.
أسأل الله أن يمنحكِ السكينة والرضا، وأن يرزقكِ بما يسعد قلبكِ في الدنيا والآخرة.