أنا فتاة أبلغ من العمر ثلاث وعشرين عاما ... أنهيت دراستي الجامعية العام الماضي تقدم لي في الفترة الماضية أكثر من خاطب قمت برفضهم لأسباب مفتعلة وغير حقيقية فالسبب الحقيقي الذي لم أخبر به أحد أنني أخاف من الزواج جدا فوالدي نموذج للأنانية لا يهتم إلا بما يريده ويرغبه ودائما هو أولا، وأنا لا أريد أن أعيش الحياة التي عاشتها أمي حتى تحافظ على استقرار أسرتتنا وأنا لن أتحمل ما تحملته.. حتى صديقاتي اللاتي خطبن أو تزوجن يكدن يجمعن أن الرجل كائن أناني لا يشغله في الحياة إلا مصلحته وأنه عندما يعطي فإن ذلك يعتبر الطعم كي يأخذ أضعافا مضاعفة وأنا أريد أن آخذ مثل ما أعطي ولا أريد أن أكون درجة ثانية في البيت.. ربما الشيء الوحيد الذي يجعلني أفكر في الزواج أن أغادر البيت وأترك أبي بعصبيته وأنانيته.. أحلم بسكن خاص وعمل خاص بعيدا عن سيطرة الرجال وطباعهم القاسية.
ابنتي العزيزة، أهلاً ومرحبًا بك على صفحة استشارات المجتمع.. قرأت رسالتك أكثر من مرة ويبدو لي أن لديك تصورات معرفية وأفكار مشوهة ومشوشة عن الرجال والزواج ومؤسسة الأسرة هي ما تسبب لك كل هذه المخاوف من الزواج.
يبدو لي أن علاقتك بوالدك ليست على ما يرام، وهذه العلاقة هي السبب الرئيسي فيما تعانين منه.. نموذج الأب العصبي المتسلط الذي يتعامل بأنانية أصبح هو النموذج الذي يمثل كل الرجال بينما نموذج الأم الضعيفة المقهورة أصبح هو النموذج الذي تخشين أن تتحولي إليه إذا ارتبطت وتزوجت وكونت أسرة...
ويبدو أيضًا أن بعض صديقاتك قمن بتصدير نفس هذا التصور لك عن حياتهن الخاصة فعزز ذلك من تصوراتك المعرفية المشوهة حتى أصبحت أقصى أحلامك أن تستقلي بحياتك عن طريق سكن خاص وعمل يوفر لك الحرية المالية، ولا شك أن الخطاب النسوي المباشر وغير المباشر كان له دور محوري في نضج هذه الأفكار في ذهنك حتى أنها قامت بالفعل بالتشويش على الرغبة الفطرية لدى كل فتاة للحب والزواج وتكوين أسرة.
وأنا أريد مناقشة بعض الأفكار معك، وكل ما أرجوه أن تحاولي أن تقرئي هذه الكلمات بعقل وقلب مفتوح، وأنا لدي أمل كبير في هذا وإلا لما أرسلت استشارتك، فبالتأكيد يوجد في أعماق نفسك جزء يرفض هذه التصورات ويرفض ما تقولين إنك تحلمين به.
يا ابنتي الغالية، هناك خطأ كبير في طريقة تفكيرك وهي الميل للتعميم؛ فوالدك وزوج صديقتك وشخص آخر مثلا أصبحوا كل الرجال وجنس الرجال جميعا! وبالتأكيد الأمر ليس كذلك؛ فالأنبياء والصحابة والأولياء والدعاة هم رجال أيضا أليس كذلك؟ كما أن هناك كثيرًا من الأسر المستقرة والسعيدة لا تتحدث عن نفسها خشية من الحسد وأشياء أخرى بينما من يعاني يملأ الدنيا صراخا هل تفهمينني؟
الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ (النساء: 34) القوامة من المعاني التي أسيء تفسيرها، فالقائم على أمر ما هو المسئول عنه فهي تحمل من التكليف أكثر بكثير مما تحمل من التشريف، والتشريف نابع من القيام بالتكليف أي المسئولية .. قيادة الحياة الأسرية بما يتمتع به الرجل من صفات الرجولة من قوة وتحمل وصلابة خاصة في مجالات العمل وما يواجهه فيه من مشقة، ثم هو ينفق هذا المال بطيب نفس على أسرته...
هذه هي باختصار الرؤية القرآنية والتي لا يمكن فهمها بعيدًا عن التطبيق النبوي لمعاني القوامة، فهو يتشارك الرأي مع زوجاته يساعدهن في مجال عملهن الخاص يُقبّل بناته ويحمل أحفاده في الصلاة ويرى في الرجل الذي لا يُقبّل أولاده أن الرحمة انتزعت من قلبه وهكذا.
قد تقولين إن هذا السلوك النبوي لا يوجد من الرجال من يتمثله، فنحن نعيش في مجتمع ذكوري متعفن أليس هذا ما تقوله النسويات؟! والإجابة في غاية البساطة إن النموذج النبوي هو النموذج الأعلى في التطبيق، إلا أن على كل رجل مسلم أن يأخذ منه بقدر ما يستطيع وبقدر ما يرغب في الارتقاء، فهذا التطبيق دين يحاسب به وهكذا، فكما تجدين من يقيم الصلاة ومن يلهو عنها ستجدين من يمتثل لخلق النبي داخل الأسرة ومن هو بائس نكد.. والحل أن نبحث فيمن يتقدم للزواج فيمن يمتثل سنة النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الخلق والدين "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير" رواه الترمذي.
ولاحظي أن الخُلق جزء من الدين، وإنما تم ذكره بشكل منفصل لأهميته في الزواج أكثر من الصلاة والصيام، فأنت تريدين رجلا سمحًا لينًا قريبًا عطوفًا غير فاحش في الكلام... وهكذا.
ولكي يحدث هذا فلا بد أن تكوني أنت أيضا صاحبة خلق ودين بالمعنى الواسع للخلق والدين؛ فالدين ليس صلاة وصيامًا فقط وإنما الدين منهج شامل متكامل للحياة ومنها الحياة الأسرية، فلا بد أن تؤمني بفلسفة الأسرة في الإسلام ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الروم: 21)، وهي فلسفة متوافقة تمامًا مع الفطرة الإنسانية السوية التي تشتاق السكن وتهفو للمودة والرحمة.
أما الخُلق فلا يعني الصدق والأمانة وفقط، ولكن خلق الزوجة المسلمة ﴿فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ﴾ (النساء: 34).
ولكي تصلي لمرحلة القبول بهذه الأفكار والسكن إليها فأنت بحاجة لبذل كثير من الجهد في القراءة والتحليل والتأمل والدعاء لله أن يهدي قلبك ويلهمك الصواب، ونحن معك خطوة بخطوة إن شاء الله فاكتبي لنا ودعي الحوار يتواصل.