أعمل في مؤسسة، بها رجال ونساء، وأشهد أن كثيرًا من الذين يعملون على أخلاق عالية، جاءني أحد الزملاء وقال لي: إن إحدى الزميلات أخبرته أنها رأت اثنين من الموظفين (شابًا وفتاة) في أوضاع مخلة، واتهمهما في أعراضهما، مع استغرابي لهذا الاتهام أن يحدث في مكان العمل. لكنني اكتشفت أن الأمر نوع من الشائعات، وأن الكلام تم تناقله بين الناس، وهذا يقول، وهذه تقول، فحزنت في نفسي، وشعرت أن الإيمان أصبح ضعيفا في قلوب الناس، وأن الاتهام في الأعراض – على خطورته- أصبح شيئًا سهلًا، تلوكه الألسنة، وخاصة في أماكن العمل. وأريد أن أعرف كيف أتعامل مع مثل هذا الأمور؟ وما نظرة الدين لهذا الكلام؟ وكيف نقضي في مجتمعاتنا على مثل هذه الوساوس الشيطانية التي يقوم بها شياطين الإنس، وهي من تزيين شياطين الجن؟ وهل هذا الكلام يؤثر في إيمان الناس؟ وما منهج الإسلام في الحفاظ على أعراض الناس؟
الأخ الحبيب، حياك الله، وأسأله –سبحانه- أن يجعلك مبعَث نور وهدى لمن حولك، وبعد...
فأشكرك على رسالتك هذه، التي طرحت موضوعات في غاية الأهمية، وضعها الشرع المطهر في مكانة كبيرة، واحتاط لها بضوابط، ووضع لها آدابًا يجب أن تُتَبع وتُرَاعى .
ولكي أقدم لك الإجابة التي تفيدك، أريد أن أناقش معك عدة مفاهيم.
مفهوم الاختلاط وحكمه:
تعالَ أولًا- أخي هلال – نناقش مفهوم «الاختلاط»، حيث اكتسبت هذه الكلمة سمعة سيئة من كثرة التعبير بها عن صور سلبية للتعامل بين الجنسين، وأصبح مجرد سماعها أو ذِكرها يترك في النفس تصورات مستقبحة، ويوحي بمعانٍ مرفوضة.
والحقيقة أن كلمة «الاختلاط» هذه ليس لها أصل في المصطلحات الشرعية، ولم تجرِ على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، ولا على لسان أحد من صحابته الكرام، ولا على لسان أيٍّ من التابعين أو فقهاء السلف، رضي الله عنهم أجمعين، وإنما هي كلمة مستحدثة ابتدعها بعض الدعاة المتأخرين.
وأُشيع استخدامها، وارتبطت بالمعاني السيئة، حتى اكتسبت مع الوقت حُكْم الحرمة، فلا يكاد أحد يُسأل عن حكم الاختلاط إلا ويقول دون تفكير: «هو حرام»!. وعلى المستوى الشخصي فإني لا أحب استعمال هذا اللفظ، وأفضل عليه لفظ (الاشتراك).
وإن كنا نريد أن نحكم بأدوات العلم، لا بالعاطفة، فينبغي أن تحكمنا المسميات لا الأسماء، والمعاني لا المباني، ونحكم على المصطلحات حسب ما تدل عليه فعلًا، وبحسب تطبيقها في الواقع، لا بحسب فهم الناس لها.
إن الحق الذي ندين الله به –بعيدًا عن الأحكام السطحية والأقوال المتشنجة– أن الاختلاط –بمعنى وجود الرجال والنساء في مكان واحد- ليس محرَّمًا في ذاته، وإنما الحرام هو ما قد يلابس هذا الوجود المشترك أو ما قد ينتج عنه من أفعال محرمة.
من هذا ندرك أن الاختلاط المنضبط بضوابط الشريعة وآدابها، لا يُعدُّ مُحرَّمًا، وتتمثل تلك الضوابط والآداب في التزام كل من الرجال والنساء بالآتي:
- اللباس الشرعي.
- غض البصر.
- عدم الخضوع بالقول.
- تجنب الخلوة المحرمة.
- البعد عن الكلام الزائد الذي لا فائدة تُرجَى منه، والمزاح الخارج.
فما خالف تلك الآداب وتعدى تلك الحدود فهو المُحرَّم. وهذا هو الفهم الذي قررته الشريعة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام.
بناء على هذا، فإنه كي تحفظوا دينكم – رجالا ونساء – في هذه المؤسسة المشتركة، فعليكم أن تتمسكوا بالآداب والأخلاق التي وضعها الشرع الحكيم للتعامل بين الجنسين، والتي بها يسلم الدين، وتُصان الأعراض، وتُحفَظ الحرمات. ولا تسمحوا لأي منكم – رجلًا أو امرأة – أن يتعدى هذه الحدود، فإن أخذتم على أيدي المتفلتين والمتفلتات نجوتم جميعًا، وإن تركتموهم هلكتم جميعًا.
ولله الحمد -أخي- حيث شهدت في رسالتك بأن كثيرًا من الذين يعملون معك في هذه المؤسسة يتميزون بالأخلاق الحسنة الطيبة.
نقل الكلام داء:
بعد أن قررنا هذه المفاهيم، نأتي إلى القضية والمشكلة التي طرحتها في رسالتك، ودعني أتتبع معك تعبيراتك وألفاظك وأنت تحكيها، فقد قلت أخي الكريم: «فجاءني أحد الزملاء وقال لي: إن إحدى الزميلات أخبرته أنها رأت اثنين من الموظفين... إلخ».
وما أود التعليق عليه هنا أولًا هو هذا الفعل المنبوذ دينًا وخلقًا، ألا وهو القيل والقال، والغيبة، ونقل الكلام الخبيث، فقد تكاثرت الآيات والأحاديث الدالة على حرمة هذه الأفعال وكراهية الشارع لها، فما كان ينبغي لتلك الزميلة التي رأت هذا الفعل من زميليها –إن كانت رأت فعلًا– أن تنقل ما رأت وتفضح أمرهما، وتقطع عليهما طريق التوبة، بل كان يجب عليها أن تنصحهما سرًا، وتبين لهما خطأ صنيعهما.
ورائدنا في ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- للرجل الذي كان سببًا في فضح ماعز –الصحابي الذي زنا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم-: «لو سترته بثوبك كان خيرًا لك». وقوله صلى الله عليه وسلم، في بيان فضل الستر بشكل عام: «من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة».
ولكن هذه الزميلة –سامحها الله- بدلًا من أن تفعل ذلك، استبدت بها شهوة الكلام والإخبار بخفايا الأمور، فصرحت لأحد زملائها بما رأت، فلم يكن هذا الزميل بأفضل منها ولا أتقى، ولم ينهها ولم يزجرها، بل حمل عنها هذا الحديث الذي قد يكون إفكًا مفترى من الأساس أو مبالغًا فيه، واستبد به ما استبد بها، وحمل الكلام إليك.
وهكذا ينتقل الحديث وينتشر من شخص لآخر، حتى يصير على لسان كل العاملين في هذه المؤسسة، إن لم يقابل في طريقه أذُنا صالحة، تنتقي ما تسمع، وتنقيه، وتنصح قائله وتزجره وتوقفه عند حده إن رأت فيه ما لا يرضي الله ورسوله.
ما أقبح وما أشد عقاب هؤلاء الناقلين، هذا إن كان ما يتناقلونه صحيحًا، فماذا لو كان إفكًا؟؟!! ماذا لو كان كذبًا أو اختلاقًا؟!
إننا نعلم أن من طباع هؤلاء المستلذين بالخوض في الأعراض أنهم يتفننون ويتلذذون بإضافة وقائع أخرى من خيالهم لما سمعوه، وكأن كل منهم يريد أن يضع بصمته الخاصة على الموضوع، ليضفي عليه شيئًا من الإثارة!
وهم بذلك يصنَّفون عند الله عز وجل من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وهم الذين توعدهم الله عز وجل بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، حيث قال عز وجل: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ واللَّهُ يَعْلَمُ وأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ (النور: 19).
ويقعون قبل هذا التصنيف في تصنيف أبشع، وفي ذنب أقبح، وهو رمي المحصنات المؤمنات، وهو جرم يوجب حدًّا، قال تعالى: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ولا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ﴾ (النور: 4).
كل هذه الأمور الخطيرة والتشريعات العظيمة يغفل عنها هؤلاء، ويقذفون بأنفسهم في أتون عذاب الله وسخطه دون وازع من دين أو خلق. وتتفاوت درجاتهم في العذاب والسخط بحسب دور كل منهم، كما قال عز وجل: ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ والَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
وهذا دورك وواجبك:
إن واجب المسلم الحق والمؤمن الصادق إذا تناهى إلى سمعه مثل هذا الكلام الخبيث أن يرفض سماعه ويزجر قائله، ويحذره من عذاب الله، وأن يظن بإخوانه المسلمين خيرًا، طالما لم تقم هناك بينة تدل على غير ذلك.
قال تعالى: ﴿لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وقَالُوا هَذَا إفْكٌ مُّبِينٌ. لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الكَاذِبُونَ . ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ . إذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ . ولَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ . يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ. ويُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (النور: 12 -18).
أخي الحبيب، سألتني أن أخبرك بكيفية التعامل مع مثل هذا الأمر، ولعل ما قلته في السطور السابقة قد أجاب على سؤالك، ولكن إتمامًا للفائدة ألخص لك منهج الإسلام في التعامل مع هذه المسألة:
أولًا: إذا رأى الإنسان أخًا له على معصية، يجب عليه أن ينصحه أولا باللين والرفق، ملتزمًا بآداب النصيحة، وأن يبين له خطأ فعله، ويستر عليه ويمهله. وليس له أن يخبر أحدًا من الناس إلا ولي أمر هذا العاصي إذا استمر على معصيته وكانت معصيته يتعدى ضررها إلى غيره، بشرط أن يكون هذا الولي بيده وفي استطاعته منع الضرر، حفاظًا على أمن وسلامة المجتمع.
ثانيًا: إذا تناهى إلى سمع المؤمن حديث يشي بنقيصة في أحد إخوانه، أو بعيب فيه أو بفعله لمعصية، فيجب عليه أولًا أن يزجر من حدثه ويعظه وينصحه، ثم يحسن الظن في أخيه المنقول في حقه الكلام، ولا يتغير قلبه عليه طالما ليس هناك دليل على صحة ما نُقل عنه.
وبناء عليه:
عليك -أخي- أن توقف هذه المهزلة فورًا، فتنصح هؤلاء بأن يكفوا عن الحديث في هذا الأمر اتقاء لعذاب الله عز وجل، وذكِّرهم بالآيات والأحاديث التي ذكرتها لك. فلو فعل الكل هذا ما وجد أصحاب النفوس المريضة آذانًا يصبون فيها سمومهم، ولدفعهم هذا إلى الكف عن هذا الفعل.
كما يجب أن تتخذوا بعض التدابير والإجراءات في المؤسسة -أو تطلبوا من صاحب العمل اتخاذها- لضمان استحالة حدوث خلوة بين رجل وامرأة، اتقاءً للشبهات، وحماية للأعراض.
وعليك أيضًا إتباع ما ذكرته من شروط للعمل المشترك بين الجنسين لتلافي حدوث تجاوزات في المستقبل.
وفقك الله لما فيه الخير.