السلام عليكم ورحمة الله، الاستشارة بخصوص غضِّ البصر، لي أختٌ في الله، في بداية الحياة الجامعيَّة، وتشكو لي أنَّها وقعت في ما يسمَّى «الحبّ» نتيجة عدم غضِّ البصر، وطلبتُ منها البعد عن هذا، ولكنَّها بدأت في البكاء بحرقةٍ لأنَّها تدَّعي أنَّها وقعت في الحبّ، والشابُّ الذي تحبُّه من الشباب المتدين. فماذا أفعل معها؟ جزاكم الله كلَّ الخير.
الأخت الكريمة، مرحبا بك، وجزاك الله خيرًا على اهتمامك بهذه الأخت وحرصك عليه، وبعد...
فأستأذنك بدايةً في أن أناقشك في المحور الذي حدَّدته لمشكلتك، حيث قلت: «الاستشارة بخصوص غضِّ البصر»، ثمَّ تحدَّثت عن مشكلة زميلتك ووقوعها في الحبّ، وحدَّدت السبب بأنَّه نتيجة عدم غضِّ البصر.
أنا معك في أنَّ النظر هو رائد القلب ورسوله، وكما قال الشاعر: «كلُّ الحوادث مبدؤها من النظر»، ومعك في أنَّ إطلاق البصر دون ضابطٍ يورِد الإنسان ذكرًا أو أنثى موارد التهلكة، كما أنَّنا مأمورون من قِبَل الله عزَّ وجلّ بغضِّ أبصارنا عن النظر إلى ما حرَّم الله عزَّ وجلَّ النظر إليه.
ولكنِّي –رغم ما سبق- لست معك في إلقائك اللوم كلَّه والمسئوليَّة على عدم غضِّ البصر وحده، فإنَّ هناك أسبابًا حقيقيَّةً أخرى يغفل أو يتغافل عنها المتدينون والمتدينات ومن يوجِّههم ويرعاهم.
إنَّ الشباب المتدين والفتيات المتدينات، لهم أحاسيس ومشاعر وفِطَر، لا تختلف عن غيرهم من أقرانهم، ومحاولة كبت وخنق هذه المشاعر والأحاسيس والفِطَر تؤدِّي إلى عيوبٍ نفسيَّةٍ شديدةٍ تؤتي آثارها الضارَّة على علاقة هؤلاء الشباب بأنفسهم وبالمجتمع من حولهم، وتصيبهم بنوعٍ من انفصام الشخصيَّة؛ فالعديد منهم قد يعيشون أو «يُظهِرون» أنفسهم في قالبٍ معيَّن، وحينما يخلون مع أنفسهم أو مع بعض الأصدقاء البعيدين عن مجتمع المتدينين يعيشون في قالبٍ آخر، وهذا يؤدِّي بدوره إلى صراعٍ داخليٍّ يعتلج داخل نفس الشابِّ والفتاة، حيث يتهمَّان أنفسهما بالنفاق والرياء.
ويصاحب ذلك غرس وإشاعة بعض المفاهيم المغلوطة والمبالغ فيها عن غضِّ البصر والاختلاط لحصر أسباب الانحراف فيهما وحدهما، فيُفسَّر أمر الله عزَّ وجلَّ بغضِّ البصر، بوجوب الإغماض التام، ويُفسَّر التحذير من آفات الاختلاط غير المنضبط بالفصل التام!!
ودعينا نصارح أنفسنا بأنَّ مثل حالة هذه الأخت كثيرٌ ومنتشر، أقول ذلك من خلال ما يرد إليَّ من استشاراتٍ ومشكلات، وذلك يرجع للأسباب التي ذكرناها، وظهور مثل هذه الحالات وانتشارها في أوساط المتدينين تدعونا إلى ضرورة التفكير بطريقةٍ أخرى في مسألة التربية، طريقةٍ لا تتجاهل وجود الجنس الآخر في الحياة، وتكرِّس مفهومًا واضحًا للتعامل الطبيعي المنضبط مع هذا الجنس، كما كان عليه العهد في مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام.
أمَّا إهمال وجود الجنس الآخر، وتحريم وتجريم التعامل معه أو الاتصال به بأيَّة طريقةٍ من الطرق، إنَّما هو منافٍ للفطرة البشريَّة، ومحاولةٌ يائسةٌ تصطدم بالواقع الحياتي عاجلًا أو آجلًا، فتظهر سلبيَّات ذلك عندما يتعامل هؤلاء الشباب مع المجتمع المنفتح من حولهم، والذي يبدو جليًّا في الجامعة المختلطة بعد حقبةٍ طويلةٍ من الانعزال وغرس جذوره، فتجد -إلى حدٍّ كبير- عدم توافق كثير من الشباب المتدين النفسي مع زملائهم وزميلاتهم في الدراسة، ومن ثَمَّ العمل، وربَّما تظهر بعد ذلك مشكلاتٌ في حياتهم الزوجيَّة، هذه السلبيَّات ما كانت لتظهر لو اعتاد الشابُّ والفتاة كلاهما على وجود الجنس الآخر، وتعلَّما وتربيَّا على طريقة التعامل المُثلى معه وفق الضوابط التي حدَّدها شرعنا الحنيف.
كما أنَّنا نجد من جرَّاء تلك التربية الخاطئة متناقضاتٍ عجيبةً يرتكبها كلُّ من الشاب والفتاة المتدينَيْن دون أن يشعرا، فنجد مثلًا الأخت المتدينة تعامل كلَّ أصناف البشر، من خدمٍ وبائعين وسائقين وعمَّال، وتحدِّثهم وتكلِّمهم وتشتري وتبيع، بل ربَّما جعلت البائع يفقد أعصابه من كثرة فصالها له، ثمَّ عندما تقابل رجلًا متدينًا في الطريق أو في الجامعة أو في العمل، تضطَّرب وترتبك، وتُعرِض بجانبها، وينقطع صوتها!!! ولا أفهم تبريرًا لطريقة التعامل هذه!
لا بدَّ أن نقرِّر في نفوسنا وفي نفوس إخواننا وأخواتنا وأبنائنا وبناتنا أنَّ الإسلام هو دين الوسط في كلِّ الأمور، وأنَّ أحكامه وتقديراته ليست ولا ينبغي أن تكون ردود أفعالٍ للغير، فلا ينبغي أن يدعونا الانحلال الزائد عن الحدّ، والاختلاط غير المنضبط، إلى الانعزاليَّة المفرطة، والتجاهل التام لوجود الجنس الآخر.
أختي الكريمة، إنَّ الميل العاطفي نحو الجنس الآخر أو ما يُطلَق عليه «الحب»، هو ترجمةٌ وتعبيرٌ عن الفطرة التي وضعها الله -عزَّ وجلَّ- في نفوس بني البشر جميعهم، مؤمنهم وكافرهم، صالحهم وطالحهم، والإسلام لا ينكر هذه المشاعر ولا يجرِّمها ولا يكبتها، ولكنَّه ينظِّمها ويوجِّهها توجيهًا عفيفًا طاهرًا، يحفظ طهارة القلوب والأرواح والأجساد والأنساب.
كانت هذه مقدِّمة، ونبني عليها أنَّه إذا لم يتعدَّ الأمر مع صاحبتك مرحلة الشعور وتحرُّك القلب، فلا إثم على صاحبتك إلا من الأسباب التي قد تكون أدَّت بها إلى ذلك، من نظرةٍ محرَّمة، أو حديثٍ غير منضبط، أو غير ذلك، أمَّا إن تجاوز الأمر إلى مقدِّماتٍ للفواحش الكلُّ يعلمها، فالأمر يختلف تمامًا، ويترتَّب عليه أشياء أخرى، وحسب قولك أحسب أنَّها لم تصل لهذا إن شاء الله تعالى، فالمرء لا يملك قلبه، ولكنَّه يملك فعله، وهذا بالضبط ما فعله -صلى الله عليه وسلم- مع أزواجه حين كان يعدل بينهنَّ في الفعل ويعتذر عن العدل القلبي لأنَّه لا يملكه، وقال صلى الله عليه وسلم معتذرًا لربه تعالى: «اللهمَّ هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» (رواه أبو داود والترمذيُّ والحاكم بسندٍ صحيح، وقال أبو داود: يعني القلب).
وبناءً على ما سبق ففي حالة صاحبتك لا شيء عليها في القلب، ما لم يتحوَّل ذلك لفعلٍ أو مقدِّمات فعل، أو أيِّ تصرُّفٍ ينساق وراء القلب، فهنا يكون الحساب.
وقبل أن نتحدَّث عمَّا يجب أن تفعليه معها لتخرجي بها من هذه الأزمة، إيَّاك أن تعنِّفيها أو تشعريها بأنَّها ارتكبت إثمًا عظيمًا ما كان ينبغي لها أن تقع فيه، وهي المتدينة، فالهجوم على هذه العاطفة وإنكارها على صاحبها يجعله يزداد تمسُّكًا بها، وتضعف قدرته على مراجعة نفسه، والسير في طريق التخلُّص منها.
وأوَّل شيءٍ يجب أن تفعليه معها بعد استحضار نيَّتك، واحتساب الأجر عند الله عزَّ وجلّ، أن تجلسي معها جلسةً هادئة، وتحاولي معها أن تصلي إلى تشخيص شعورها تجاه هذا الشاب تشخيصًا دقيقا، فإنَّنا كثيرًا ما نخلط بين الاحتياج النفسي، والإعجاب، والحب، وغير ذلك، وإن كان بعضها يستتبع بعضًا، ولكن لتحدِّدا بدايةً الطريق.
فإن كان الأمر مجرَّد إعجابٍ قلبي فانصحيها ألا يتجاوز الأمر ذلك، وأن تحرص كلَّ الحرص أن تبتعد عن كلِّ ما قد يحوِّل هذا الإعجاب إلى فعل، وهي أدرى الناس بنفسها، فأيُّ فعلٍ تتأكَّد من أنَّه سيسبِّب لها مشكلةً عليها أن تبتعد عنه تمامًا غلقًا لهذا الباب.
أمَّا إن كان الأمر أبعد من إعجابٍ قلبي، من حيث إنَّه بدأ يدعوها إلى بعض التصرُّفات التي قد تؤدِّي إلى ضرر، فهنا أخبريها -أختي الكريمة- أنَّ العلاج الوحيد في مثل هذه الحالات لا يخرج عن أمرين:
الأوَّل: أن تتزوَّج تلك الفتاة من الشخص الذي أحبَّته، على شرع الله عزَّ وجلّ، إذا كان الشعور بينهما متبادلاً، وكانت أسباب الزواج ممكنةً وميسَّرة، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: «لم نر للمتحابَّيْن مثل النكاح» (رواه ابن ماجة بإسنادٍ صحيح).
وإن لم يتيسَّر ذلك لسببٍ أو لآخر، فليس أمامنا إلا العلاج الثاني، وهو علاجٌ صعبٌ ومؤلم، ألا وهو البتر، نعم البتر، وقطع كلِّ أسباب اللقاء أو الحديث، أو حتى الرؤية لذلك الشاب.
وينبغي أن يُتَّخذ هذا القرار سريعًا ودون إبطاء، فالتمهُّل والتدرُّج لا يفيدان في مثل هذه الأمور، وإنَّما يؤدِّيان إلى زيادة المضاعفات، وتأخُّر الشفاء، وربَّما استعصى العلاج بعد ذلك.
ثمَّ انصحيها وأرشديها إلى بعض الأسباب والمعينات التي تساعدها على الخروج من هذه الأزمة سريعا، مثل:
1- دوام الدعاء والابتهال إلى الله -عزَّ وجلَّ- أن يرفع عنها ما هي فيه، وأن يربط على قلبها، وأن يرزقها العزيمة والصبر.
2- ملازمة المصحف دائمًا، وكثرة القراءة فيه، وانصحيها أن تفتحه في أيِّ مكانٍ وفي أي وقت تتاح فيه القراءة.
3- ذكِّريها بأنَّ هذا العذاب التي تحسُّ بها، والنار المتَّقدة في قلبها، أخفُّ كثيرًا كثيرًا، بل لا تقارن بعذاب الآخرة ونار جهنَّم، والعياذ بالله.
4- ذكِّريها دائمًا أنَّ من ترك شيئًا لله، عوَّضه الله -عزَّ وجلَّ- عنه، ما هو خيرٌ له في دينه ودنياه.
5- ذكِّريها بما أعدَّه الله -عزَّ وجلَّ- في الجنَّة من نِعَمٍ ومُتَعٍ لعباده الصابرين المجاهدين لأنفسهم.
6- حاولي على قدر استطاعتك أن تلازميها دائمًا وتتابعيها، وشدِّي من أزرها، وقوِّي عزيمتها، وتعقَّبي خطواتها على طريق الشفاء، وسارعي أوَّلًا بأوَّلٍ بإقالة عثرتها، وتسديد خطاها.
7- اعملي على إحاطتها دائمًا بالرفقة الصالحة والصديقات المخلصات، ليتعاونَّ معك على إخراجها من هذه الأزمة بشرط ألا يعلمن ما بها حفاظًا على سرِّها، وأشغلن أوقاتها دائمًا في الخير والصلاح، بحيث تتناوبن عليها، فلا تتركن فرصةً للشيطان لينفرد بها.
8- اطلبي من أخواتك ومن الصالحين الدعاء لها، ولكن –كما أشرت سابقا- إيَّاك من إفشاء سرِّها لأحد، فلا تفضحيها، وعندما تطلبي من أحدٍ أن يدعو لها، فاطلبي أن يكون الدعاء عامّا.
9- ساعديها على شغل الوقت بالعمل النافع لنفسها ولغيرها، وبالهوايات المفيدة، وحذِّريها من أن يقذف الشيطان في روعها أنَّها لا تصلح من الآن لأعمال الخير، وأنَّها لا تليق أن تلتحق بسلك المتدينات؛ وتنصرف إلى جَلْد الذات وتحقيرها.
أفهميها أنَّ الدعاة إلى الله -عزَّ وجلَّ- والمتدينين عمومًا، ليسوا ملائكة، وهم معرَّضون لكلِّ ما قد يتعرَّض إليه غيرهم من البشر، وقد قال الله -عزَّ وجلَّ- في معرض وصفه للمتقين: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (آل عمران: 135)، فلم يخلع عنهم صفة التقوى بمجرَّد فعل الفاحشة وظلم أنفسهم، فهم يبقَون «متَّقين» بشرط التذكُّر والاستغفار، ووعدهم ربُّهم سبحانه بالمغفرة وبجنِّةٍ عرضها السماوات والأرض أُعدَّت للمتَّقين، طالما لم يصرُّوا على أفعالهم تلك بعد أن علموا بعدم جوازها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «كلُّ ابن آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوابون» (رواه الترمذيُّ بسندٍ حسن).
10- ساعديها على تجديد نمط حياتها، اخرجا معًا للتنزُّه في الأماكن الطبيعية المفتوحة، والفتي نظرها للأشياء الجميلة في الكون، لزرقة المياه، لصفاء السماء، لابتسامةٍ طفل صغير، شجِّعيها على مخالطة المساكين، ومعاونتهم، ومشاركتهم آلامهم والتخفيف عنهم، وجِّهي اهتمامها لمتابعة أخبار المسلمين في فلسطين، وفي غيرها من البلاد.
وبعد أن يمنَّ الله -عزَّ وجلَّ- عليها، حاولا معًا أنت وهي أن تتأمَّلا ثانيةً في الأسباب التي أوقعتها في هذا الأمر، وتحاولا دراستها، حتى لا يتكرَّر الأمر معها، فمن الممكن أن تكون العاطفة لها التأثير الأقوى في شخصيَّتها، وعندها القابليَّة للتأثُّر السريع بها، فإن كانت كذلك، فاغرسي في نفسها أنَّها يجب أن تلجم نزوات عواطفها بنظرات عقلها، وتبتعد عن كلِّ ما يثير عواطفها، أيًّا كانت هذه المثيرات.
ويبقى جانبٌ مضيءٌ يجب أن تسترعي انتباهها إليه بعد أن ينعم الله عليها بالنسيان والخروج من هذه الأزمة، وهو الفوائد والعِبَر التي لم تكن لتأخذها إذا لم تمرَّ بهذه التجربة، ومنها لجوؤها لله عزَّ وجلّ، وعِلمها أنَّها دائمًا في حاجة إليه سبحانه وتعالى، وأنَّ النفس البشريَّة ضعيفةٌ متقلِّبة، ومن الفوائد الكبرى من هذه التجربة أنَّها كشفت لها عن فهمٍ دعوي لم تكن لتلتفت إليه، إذ هي ربَّما كانت قبل ذلك تستحقر العصاة، وتستنكر أن تقع إحدى زميلاتها أو أخواتها في العشق أو غيره، وتسخر منها، فجعلتها هذه التجربة ترحم العصاة وتنظر إليهم نظرةً أخرى، وتعطف على أخطائهم، وتأخذ بأيديهم، وتعلم أنَّ النفس بين هذا وذاك لا تهدأ، وأنَّ كلَّ نفسٍ فيها الخير حتى وإن خالف ظاهرها ذلك.
أختي الكريمة، أعانك الله ووفَّقك وتقبَّل منك، ونذكِّرك مرَّةً أخرى باستحضار نيَّتك، واحتساب الأجر عند الله عزَّ وجلّ.
وفي انتظار رسائلك دائمًا.