الأفكـــار والدافعية للنهوض

المجتمعات والأفراد يتعرضون للأزمات والانتكاسات، هل الأفكار قادرة على ترميم تلك الانكسار وإصلاح المجتمع؟

يظن البعض أن دور الأفكار هامشي في النهوض الحضاري، وفي حماية المجتمعات من الانكسارات وقت الأزمات والهزائم، ويظن هؤلاء أن الأفكار لا تعني إلا كمًّا من المعلومات يمكن سردها أو تلقينها، أو معارف يمكن حفظها.

المفكر "مالك بن نبي" أشار إلى أن مقاييس الغنى والفقر في المجتمع إنما ترتبط بالأفكار في الأساس، وأن قوة أي أمة تقاس بما تمتلكه من أفكار حية وبناءة ودافعة، وأن عالم الأفكار أفضل من عالم الأشياء؛ لأن الأشياء تكون في خدمة الأفكار، يقول "بن نبي": "ويحدث أن تُلم بالمجتمع ظروف أليمة، كأن يحدث فيضان، أو تقع حرب فتمحو منه عالم الأشياء محواً كاملاً، أو تُفقده إلى حين ميزة السيطرة عليه، فإذا حدث في الوقت ذاته أن فقد المجتمع السيطرة على عالم الأفكار، كان الخراب ماحقًا، أما إذا استطاع أن ينقذ أفكاره، فإنه قد أنقذ كل شيء؛ إذ إنه يستطيع أن يعيد بناء عالم الأشياء".

الأفكار عالم من الحيوية والفعالية، فهي كالطاقة الكامنة التي لا ينقصها إلا التشغيل والإنتاج، والفرد والمجتمع مسئول عن البحث عنها وتنقيتها، وصولاً إلى الأفكار النافعة القادرة على تحريك الركود، ولعل الكلمة القاسية التي كتبها المفكر البوسنوي علي عزت بيجوفيتش، وتصف مسئولية المجتمع عن حماية نفسه ووقايتها بدرع من الأفكار القوية، ذات أهمية في هذا السابق، يقول بيجوفيتش: "لا توجد خسارة لا يكون الشعب الخاسر مسؤولاً عنها! ولا يوجد في مزبلة التاريخ أبرياء؛ لأنك عندما تكون ضعيفًا فهذه خطيئة من وجهة نظر التاريخ، وأن تكون ضعيفًا في التاريخ هو عمل لا أخلاقي".

عندما يقتنع المجتمع والفرد بفكرة أن الضعف رذيلة ممقوتة وليس قدرًا لا فكاك منه، وأن هذا الضعف مسؤولية ذاتية في المقام الأول، فإن أول فعل إيجابي يقوم به المجتمع هو النظر إلى داخله والبحث عن علله الدفينة، لعلاجها والتعافي منها.

ولعل هذا الفكرة تدفعنا إلى النظر للقرآن الكريم، فعندما تعرض المسلمون للهزيمة في "غزوة أحد" دعاهم القرآن الكريم لأن يروا الهزيمة من منظور الخطأ الذاتي، فهو السبب الحقيقي للهزيمة: ﴿أَوَلَمَّآ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَدۡ أَصَبۡتُم مِّثۡلَيۡهَا قُلۡتُمۡ أَنَّىٰ هَٰذَاۖ قُلۡ هُوَ مِنۡ عِندِ أَنفُسِكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ﴾ (آل عمران: 165)، فهذه الآية في هذا الموقف العصيب، فتحت أذهان المسلمين على أفكار جديدة قوية وعميقة، في مقدمتها التعامل مع التاريخ من منطق السنن الاجتماعية، وليس من منطق المحاباة والتفضيل مثلما فعل اليهود الذين ادّعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه.

أوضح سيد قطب في الظلال أن تلك التجربة طحنت التصورات الساذجة للمسلمين في التعامل مع الواقع، وأعادت صياغة أفكارهم بصورة واقعية، فأدركوا أن السنن لا تحابي أحدًا حتى ولو كان نبيًّا، فيقول: "ومن ثم يقفهم على الأرض الصلبة المكشوفة؛ وهو يبين لهم أن ما أصابهم كان بفعلهم، وكان الثمرة الطبيعية لتصرفهم.. فإن كونهم مسلمين لا يقتضي خرق السنن لهم وإبطال الناموس، فإنما هم مسلمون لأنهم يطابقون حياتهم كلها على السنن، ويصطلحون بفطرتهم كلها مع الناموس".

أما الإمام محمد عبده فعندما تعرض لهذه الآيات، رأى منامًا عجيبًا، يقول عنه: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا منصرفًا مع أصحابه من أُحد وهو يقول: "لو خيرت بين النصر والهزيمة لاخترت الهزيمة".

ويعلل ذلك محمد عبده بقوله: "لما في الهزيمة من التأديب الإلهي للمؤمنين وتعليمهم أن يأخذوا بالاحتياط ولا يغتروا بشيء يشغلهم عن الاستعداد وتسديد النظر، وأخذ الأهبة وغير ذلك من الأسباب والسنن"، ثم يلفت النظر إلى ضرورة حضور الفكر السنني في حركة المجتمع المسلم فيقول: "والعلم بسنن الله تعالى من أهم العلوم وأنفعها، والقرآن سجل عليه في مواضع كثيرة وقد دلنا على مأخذه من أحوال الأمم، إذ أمرنا أن نسير في الأرض لأجل اجتلائها ومعرفة حقيقته، والسير في الأرض والبحث عن أحوال الماضين وتعرف ما حل بهم هو الذي يوصل إلى معرفة تلك السنن والاعتبار بها كما ينبغي... وأن من يتبع تلك السنن فلا بد أن ينتهي إلى غايتها سواء كان مؤمنًا أو كافرًا.. فالانتصار والهزيمة يقعان بما يجري مع مشيئة الله في الأخذ بالسنن".

هذه الفكرة من أهم الأفكار التي تحصن المجتمع من الانهيار والسقوط، فالنظر للداخل من أجل العلاج يعني أن الهزيمة شيء مؤقت وعارض، وأن مُكنة العلاج موجودة، يقول الكاتب الأمريكي "نابليون هيل": "عندما تأتي الهزيمة، تقبلها كإشارة على أن خططك ليست سليمة، وأعد بناء تلك الخطط، وأبحر مرة أخرى نحو هدفك المنشود".

إدراك الذات: من أهم الأفكار الدافعة للنهوض وقت الهزيمة والانكسار، الوعي بالذات، فهذا الوعي يُبصر الإنسان بعيوبها ومشكلاتها وقوتها وضعفها، يقول المفكر "علي شريعتي": "العشق، والموت، والهزيمة، ثلاث لطمات قوية تخرجه (أي الإنسان) من هذه اللجة وتفيقه، وتحت ثقل هذه اللطمات ترتد أنظاره، إلى داخله، ومن هذا الطريق يدرك نوعًا من الوعي مباشرًا، لا وساطة فيه، ومن هذا الطريق يستطيع الإنسان أن يحصل على القُدرة المعجزة التي يُخلص نفسه بها ويُغيرها".

يقول المفكر الصيني "صن تزو" في كتابه "فن الحرب" قبل ألفي وخمسمائة عام: "إذا كنت تعرف عدوك وتعرف نفسك، فلن تخشى نتيجة مائة معركة، وإذا كنت تعرف نفسك ولكنك لا تعرف عدوك، فسوف تعاني من الهزيمة مع كل انتصار تحققه، وإذا كنت لا تعرف عدوك ولا تعرف نفسك، فسوف تستسلم في كل معركة".

ولذلك كان حديث القرآن واضحًا عقب هزيمة أحد، في ضرورة أن يعرف المسلمون حقيقة أنفسهم ودورهم ومسؤوليتهم، فقال لهم عقب الهزيمة ﴿وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾ (آل عمران: 139)، ففكرة الدور والرسالة من الأفكار المهمة في الوقاية من مضار الهزائم.

فكرة المداولة: من الأفكار المهمة التي تقي الأمة وقت الهزيمة، فالفكرة تخلق قناعة بأن الهزيمة شيء عارض، وطبيعة النصر والهزيمة هو التداول، فليست شيئًا ثابتًا، يقول محمد عبده: "والمداولة في الواقع تكون مبنية على أعمال الناس، فلا تكون الدولة لفريق دون آخر جزافًا وإنما تكون لمن عرف أسبابها ورعاها حق رعايتها".