هل يمكن تفسير حالة الخوف الوجودي الموجودة حاليا في كثير من المجتمعات الغربية؟
أصبحت مشاعر الخوف تسيطر على الكثير من الناس، خاصة ضعيفي الاعتقاد والإيمان، وهذا الخوف الوجودي يتزايد مع حركة الحياة المتسارعة.
وهذا الخوف الوجودي أو ما يمكن تسميته أيضًا القلق الوجودي، هو نوع من الاضطراب واليأس يظهران عند طرح الأسئلة المرتبطة بمعنى الحياة، مثل: (لماذا أتينا إلى الحياة، وما هو مصيرنا، وما هو دورنا) ولعل تلك الأسئلة ملازمة للإنسان؛ لأن جزءًا من التكوين الإنساني ليس ماديًّا، ألا وهو الروح، وهذه الروح بعيدة عن الفناء، وتتغذي مما لا يتغذى منه البدن، وأسئلتها وقلقها مزعج الإنسان؛ لأن أصوات الداخل لن يستطيع أن يكبتها.
تشير تقارير أمريكية حديثة إلى أن أكثر من 19% من البالغين عانوا من اضطرابات عقلية ونفسية، وترجع الكثير من أسبابها إلى تلك الأسئلة الوجودية المرتبطة بمعنى الحياة وغايتها، لكن الأخطر في الإحصاءات الأمريكية أن تلك المعاناة تشمل المراحل العمرية من الخامسة عشرة حتى الستين من العمر، لكن لكل فئة أسئلتها الوجودية، الناتجة عن افتقاد المعنى وأزمة اليقين؛ فكبار السن يشعرون بذلك القلق بصورة أكثر إزعاج؛ لأن رحلتهم في الحياة أوشكت على الانتهاء، وحاجتهم الجدية للمتع والملذات ضعفت، وأصبحوا يشعرون أن شبح الموت أكثر اقترابًا منهم.
تكمن الأسباب وراء هذا الخوف إلى أن غياب الدين أدى لتنامي المادية، وتحملت تلك المادية تقديم الإجابة عن تلك الأسئلة الوجودية، وهذه المادية لا ترى الوجود إلا مادة تدرك بالحواس الخمس، ومن ثم أنكرت الغيب، وأعظم الغيب الخالق سبحانه وتعالى.
ويمكن القول أن تلك المادية كانت أحد التأسيسات للإلحاد الحديث؛ إذ سعت أن تكون بديلا لكل ما هو غيبي وروحي، فأسست المادية لفصل الخوف عن كل ما هو غيبي، وادعت أنه لا يوجد سبب للخوف من عقوبة بعد الموت لمخالفة الأخلاق أو لارتكاب الآثام والمحرمات.
ولكن التضحية بهذا الخوف الديني المستند على الرؤية الدينية والأخلاقية فتح أبوابًا لمخاوف أعمق وأخطر على الإنسان، خاصة بعدما أخذت الدولة منذ القرن السابع عشر الميلادي-حسب فلسفة توماس هوبز السياسية- تحل في الطاعة مكان الإله، وتنتزع الخوف لتوظفه في السيطرة على المجتمع.
هناك أربعة مخاوف كبرى ترتبط بحياة الإنسان، هي: الموت، وفقدان المعنى، وفقدان الحرية، والعزلة، ورغم أن الخوف الوجودي لا يحظى باهتمام كبير، رغم معاناة الكثير من البشر، ربما لأن سؤال الخوف قادم من الفلسفة.
لكن الحقيقة المسكوت عنها أن سؤال الخوف الوجودي يطرح أسئلة تقوض الفكر المادي؛ فهو يفصح عن حاجات الإنسان الروحية والإيمانية والغيبية التي تنكرها المادية، ومن الأسئلة التي يطرحها: إذا الفناء يحكم حياة الإنسان؛ فلماذا وُجدت الحياة؟ وما الغاية منها؟ وماذا بعد الموت؟
الخوف الوجودي، يطرح أسئلة مختلفة، ويستدعي مناهج مغايرة، ولن يفيد الانغماس في المتع الحسية في طمس إلحاح الأسئلة؛ فالمتعة لا تخلق إجابة، ولكنها مُسكن للأوجاع، كذلك فإن اللجوء إلى أفكار التنمية البشرية ونصائحها لن يجدي نفعًا، كما أن الانغماس في العمل الاجتماعي أو الخيري لن يسكت تلك الأسئلة داخل النفس، وهو ما يفرض ضرورة المواجهة مع ذلك الخوف؛ فالأزمات الوجودية تحول النفس إلى سجن مرعب، فيشعر الإنسان بالضياع، ويفقد الدافعية للحركة، ويعيش مع اليأس والإحباط والاكتئاب والقلق.
نشير هنا إلى تجربة عظيمة في هذا الخوف الوجودي جاءت مذكرات طبيب الأعصاب الأمريكي" بول كالانيثي" بعنوان "عندم تتحول الأنفاس إلى هواء"، فقد أصيب بالسرطان بعد حصوله على الدكتوراة، وتوفي وهو في السابعة والثلاثين من عمره، وفي المذكرات يصف مشاعره مع اقترابه من الموت المحقق، ففي تلك اللحظة تثور الأسئلة حول ماهية الحياة وحقيقة الموت، ويجد "كالانيثي" أن عليه البحث عن إجابات شافية بعيدًا عن الطب وعلم والأعصاب، ويدرك أن مواجهة الموت أمر مخيف، وكان السؤال: ماذا تفعل في الحياة إذا تيقنت أنك ستغادرها بعد قليل؟ يقول "كالانيثي": "إذا كنت تعتقد أن العلم لا يوفر أساسًا لله، فأنت ملزم تقريبًا باستنتاج أن العلم لا يوفر أي أساس للمعنى، وبالتالي، فإن الحياة نفسها ليس لها أي أساس".
والحقيقة أن مفهوم الخوف حاضر في الرؤية الإسلامية، بمستوياته وتجلياته المتعددة، فقد ورد اللفظ في القرآن في ست وعشرين آية، وامتدح القرآن الكريم الخوف من الله، سبحانه وتعالى، وكذلك الخوف من الآخرة والحساب وسوء المصير، فهذا الخوف يضبط حركة الإنسان في الحياة، ويُلزم النفس الاستقامة، ويجنبها الإنحرافات والخطايا، فهو أحد معايير تحقيق الاستقامة.