أنا مسلم عربي أرى ما يحدث لإخواننا في غزة من ويلات وقتل وتدمير، مع عجزنا وسكوت العالم. وهذا يجعلني رغمًا عني أتساءل: أين الله مما يحدث؟؟ ولماذا يسمح بهذا القتل والتدمير لهؤلاء المظلومين؟ أكاد أفقد إيماني!!! ماذا أفعل؟؟؟
أخي العزيز، مرحبًا بك، وأسأل الله أن يجعل ما تشعر به في ميزانك، وأن يشرح صدرك ويزيل همك، وأن يرفع الغمة عن أهل غزة وعن كل المكروبين في العالم، وبعد...
أشعر بمعاناتك وأتفهم الألم الذي تشعر به في هذه الحقبة الصعبة التي نمر بها، وأعلم أن مشاهد ما يحدث في غزة تؤلم قلب كل مسلم؛ بل وكل إنسان لديه فطرة سليمة؛ مهما كانت ديانته؛ خصوصًا عندما نرى الأبرياء يعانون الظلم والقتل والدمار. وهذا التساؤل عن سبب «الصمت الإلهي» -إن جاز التعبير- هو تساؤل –لا شك- يراود عقول كثير من المؤمنين في أوقات المحن.
في البداية، من المهم أن نتذكَّر أن إيماننا بالله لا يعني أننا سنفهم حكمته ومراده –سبحانه وتعالى- من كل شيء يحدث في هذا الكون؛ لكننا نوقن بأنه –عز وجل- حكيم وعدل، وبأن كل ما يحدث في هذا العالم له حكمة عنده –جل وعلا- قد لا ندركها مؤقتًا أو دائمًا، فنحن مهما اتسعت علومنا ورجحت عقولنا، قد نظل عاجزين عن فهم بعض حِكَم الله -عز وجل- في أقداره بهذا الكون الذي خلقه ويدبِّر أموره، ويعلم عنه كل ما ظهر وبطن.
وقد أخبرنا القرآن الكريم أن الحياة الدنيا ليست هي نهاية المطاف، وليست كل شيء، وإنما هي مرحلة من الوجود للاختبار والابتلاء، تعقبها مرحلة باقية دائمة، هي مرحلة الجزاء، وعلى قدر ما يبتلى الإنسان في حياته ويصمد ويصبر ويرضى بقضاء الله، فإن الله عز وجل يجازيه أعظم الجزاء، يقول عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155- 157].
كما أن البلاء وسيلة لتكفير السيئات، والتطهير، ورفع الدرجات، وفي الحديث الشريف: «ما يُصِيبُ المُسْلِمَ مِن نَصَبٍ ولَا وصَبٍ، ولَا هَمٍّ ولَا حُزْنٍ ولَا أذًى ولَا غَمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بهَا مِن خَطَايَاهُ» [أخرجه البخاري].
إن ألم الإنسان في الدنيا لا يقارن بما ينتظره في الآخرة من نعيم، وانظر –مثلًا- إلى ما أعده الله عز وجل للشهداء من الأجر العظيم، مما حفلت به آيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، مما لا يتسع المقام لذكرها؛ لكن نذكر طرفًا منها:
يقول الله عز وجل: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ . فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 169- 171].
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «للشَّهيدِ عِندَ اللَّهِ ستُّ خصالٍ: يُغفَرُ لَه في أوَّلِ دَفعةٍ ويَرى مقعدَه منَ الجنَّةِ، ويُجارُ مِن عذابِ القبرِ، ويأمنُ منَ الفَزعِ الأكبرِ، ويُوضعُ علَى رأسِه تاجُ الوقارِ الياقوتةُ مِنها خيرٌ منَ الدُّنيا وما فِيها، ويزوَّجُ اثنتَينِ وسبعينَ زَوجةً منَ الحورِ العينِ، ويُشفَّعُ في سبعينَ مِن أقاربِه» [رواه الترمذي].
كما أن ظلم الناس بعضهم لبعض قد يستمر لبعض الوقت، لكن الله -سبحانه وتعالى- لا يغفل أبدًا عن الظالمين: {ولَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42]، {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ . مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 178 و179]، و{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14]، فالله قد يمهل الظالم، لكنه لا يهمله، وإذا أخذه لم يفلته.
إن الظلم في هذه الدنيا قد يبدو مؤلمًا جدًّا، ولكن في الآخرة سيكون هناك جزاء عادل من الله -سبحانه وتعالى- لكل من المظلوم والظالم، فيهنأ المظلوم بعدل الله وثوابه، ويشقى الظالم بعذاب الله وانتقامه. والإيمان بهذا الوعد الإلهي هو الذي يمد المؤمن بالقوة في أوقات الشدة.
لا أريد أن أُنظِّر عليك كثيرًا في هذه المسألة، ودعنا نتحدث عن الجانب العملي، وما ينبغي عليك فعله، لتخرج من هذه الحالة، وتتخلص من هذا الشعور. وما أنصحك به في هذا الجانب هو:
- الدعاء:
فهو الوسيلة الأقوى لاستنزال المدد والنصر والعون من الله، فادعُ لإخوانك في غزة وللمظلومين في كل مكان. كما أنه لا شيء يقوي الإيمان مثل الدعاء، فهو وسيلة التواصل المباشر مع الله، والله قريب ويستجيب لمن يدعوه، فقد قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].
ولا تقلِّل من تأثير الدعاء مهما تأخرت الإجابة في ظنك، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «يُسْتَجابُ لأحَدِكُمْ ما لَمْ يَعْجَلْ، يقولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي» [رواه البخاري]، وفي رِوَايَةٍ لمُسْلِمٍ: «لا يزَالُ يُسْتَجَابُ لِلعَبْدِ مَا لَم يدعُ بإِثمٍ، أَوْ قَطِيعةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتعْجِلْ»، قِيلَ: يَا رسُولَ اللَّهِ، مَا الاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: يَقُولُ: قَدْ دعَوْتُ، وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَم أَرَ يَسْتَجِيبُ لي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْد ذَلِكَ، ويَدَعُ الدُّعَاءَ».
وقال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ لا تُرَدُّ دعوتُهُم: الصَّائمُ حتَّى يُفطرَ، والإمامُ العادلُ، ودعْوةُ المظلومِ تُحمَلُ علَى الغَمامِ، وتُفتَحُ لها أبوابُ السَّماءِ، ويقولُ اللهُ -تباركَ وتعالى- وعزَّتي وجلالي لأنصرَنَّكَ ولَو بعدَ حينٍ» [رواه الترمذي].
- العمل الإيجابي:
وذلك من خلال وسائل متعددة، حسب المتاح لك، وما تقدر عليه؛ سواء كان ذلك من خلال توعية الناس بالقضية والحديث عنها، أو المشاركة في الأعمال الإنسانية والإغاثية، أو التبرع بالمال... إلخ.
- الإكثار من قراءة القرآن:
فالقرآن هو كتاب الهداية والنور في أوقات الشكوك، فمن المفيد أن نتعمق في قراءته وتدبر آياته، وتأمل قصصه، لنرى كيف أن الله ينصر المؤمنين، وأنه يختبرهم ويبتليهم ليُعلي من درجاتهم.
- التواصل مع أهل العلم:
فالحوار مع أهل العلم وسؤالهم عما يعنُّ لنا من تساؤلات محيرة، قد يساعد في فهم أعمق للألم الذي نشعر به، وكيفية التعامل معه من منظور إيماني. فالعلماء سيقدمون لك المشورة العملية التي ستساعدك في تجاوز هذه الأزمة.
وأخيرًا أخي الكريم، إن الإيمان لا يعني غياب الأسئلة أو الشكوك؛ بل يعني القدرة على التسليم لله في الأوقات العصيبة، والإيمان بأن الله سيجعل من كل معاناة أجرًا عظيمًا وفرجًا قريبًا. فتحلَّ بالصبر، وابحث عن وسائل لتخفيف الألم وتقديم المساعدة.
أسأل الله أن يمنحك قوة الإيمان، وأن يُفرِّج عن إخواننا في غزة وفي كل مكان. ولا تتردد في التواصل معنا.