مشوه جسديًّا ومحطم معنويًّا.. الخلاص في «عينك»

السلام عليكم أنا موقن تمام اليقين بأن لله عز وجل العدل التام والحكمة البالغة في كل أفعاله ،وموحد له في أقسام التوحيد الثلاثة ومؤمن بأركان الإيمان الستة التي منها القدر خيره وشره على الأصول الأربعة: علمه السابق ثم كتابته للمقادير قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ثم مشيئته ثم خلقه وأن كل شيء مخلوق له وإني لست قدريا من نفاة القدر ولا جبريا من نفاة المشيئة التي أعطاها الله إيانا وهي تحت مشيئته طبعا، تكمن مشكلتي بأنني قد تعرضت من الابتلاءات ما تدمرت به بصفة شبه تامة وأنا الآن على شفا جرف هار وذهب سواد دنياي الأعظم وخائف جدا من ذهاب آخرتي وأن يكون مآلي الهلاك والثبور، بداية أنا ولدت بما يشبه التشوه الجسدي مع قدرتي على ممارسة كل وظائفي ولله الحمد ثم بدأت معاناتي مع بدايات إدراكي بسخرية الكثيرين مني وها أنا قد جاوزت الأربعين بنفسية ممزقة، مع عدم تزكية نفسي وما اكتسبت عليها خاصة في بدايات حياتي حيث كنت حينذاك على جهل بأبسط أبجديات الإسلام حتى هداني ربي بمنه وفضله، وأختصر ما وقع لي متسلسلا مبتدئا باختيار العمل في ميدان شبهة نتيجة الجهل ثم بدأت انهياراتي بخسارتي لبيتي وغالب مالي وفشل زواجي السابق رغم أنني اخترتها دميمة منظر كحالي ومربضة سكري حفاظا على كرامتي لكني وجدتها من ميولات الحركة النسوية الليبرالية .... إلخ وأنا حاليا شبه متشرد وابتليت بوالدين لا يضبطان لسانيهما ولا يرقبان الله فيما يتفوهان به ضد الناس وحتى ضد أبنائهما، خاصة والدتي التي جل معارفها من شياطين الإنس، وقد زاد حالي سوءا بتسرب جرعات من كره والدي إلى نفسي خاصة والدتي التي صرت لا أطيق حتى النظر في وجهها لكثرة غيبتها مع معارفها جل النهار ، وقد ذهب غالب ظني بعد مشيئة الله طبعا مع عدم تزكية نفسي أن جل النكبات التي حصلت على أسرتنا كانت نتيجة خوض والدي في غيبة الناس والاستهزاء بهم وقد كرهت كل الناس تقريبا وقطعت أرحامي ولم أعد أطيق من البشر أحدا نتيجة دماري شبه الكلي عصبيا ونفسيا وربما عقليا والانتهاء إلى الجنون عما قريب، وأشعر أنني إنسان ملعون مكتوب عليه الشقاء وطبعا حاشا الله أن يكون ظلمني أنا أو غيري مثقال ذرة فما دونها، في خضم هاته المصائب مع عدم نفي نعم الله علي التي أثمنها معرفة الإسلام الصحيح والعقيدة السليمة لم أستطع سوى المحافظة على الصلوات الخمس في جماعة مع اليسير من تلاوة القرآن وبعض الأذكار، وأنا في غالب الأوقات أتمنى أن يميتني ربي ويغفر لي حتى مع ضعف عملي وعظيم أوزاري ، حيث أن برنامجي حاليا إن شاء الله وتركني من الأحياء هو نية الاعتمار لشهر رمضان المقبل ، وأن أدعو الله خلالها بأشياء كثيرة على رأسها أن يميتني هناك فإني والله لم أعد أطيق شيئا في هذه الحياة الدنيا. هل من كلمة تصبيرية توجيهية موجزة بارك الله فيكم ...

أهلا ومرحبا بك أخي عماد، وبأهل الجزائر الكرام، ونرحب بكم على موقعكم موقع "استشارات مجلة المجتمع"..

أخي الحبيب تحيرت في الرد على رسالتك من أين أبدأ، خاصة مع طلبك "كلمة تصبيرية توجيهية موجزة"، كما ورد في رسالتك..

لكن رأيت البداية من النقاط الإيجابية التي قرأتها في رسالتك لعلها تقودنا إلى معالجة بعض النقاط السلبية التي تراها في حياتك، وأولى هذه الإيجابيات أخي هي هذه الثقافة الواسعة التي ظهرت في أفكارك وأسلوبك ولغتك، التي تنم عن شخصية تعبت على نفسها علميا وأكاديميا؛ حتى وصلت لهذه الدرجة من الثقافة الدينية الواسعة والمتعمقة.

ثاني هذه الإيجابيات –أخي الحبيب- وهي نتيجة لثقافتك، وهي هذا الإيمان المترسخ في قلبك المبني على قواعد علمية واضحة، والذي يعرف أصول عقيدته وعلاقته بربه سبحانه وتعالى.

أخي الحبيب هاتان الإيجابيتان إذا وضعتهما أمام عينيك وانطلقت منهما في باقي مجالات حياتك فستكونان كفيلتين بحل الكثير مما تراه أنت في نفسك وتخاف أن يكون مآلك الهلاك والثبور كما ورد في نص رسالتك.

وحتى لا أطيل عليك اسمح لي أن أوجز ردي في النقاط التالية:

أولا- الله عز وجل خلق هذه الدنيا وجعلها دار فناء لتكون دار اختبار وبلاء للناس جميعا؛ فمن ينجح في هذا الاختبار فستكون نتيجته النعيم الدائم في دار القرار. والبلاء يكون بالخير كما يكون بالشر كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الأنبياء: 35)؛ بل إن الابتلاء بالشر قد يكون النجاح فيه أيسر من الابتلاء بالخير؛ لأن الابتلاء بالخير محفوف بالشهوات التي تحبها النفس، ولا تشعر بخطر ما هي فيه إن لم تشكر الله تعالى وتؤدِّ حقه عليها؛ فما أنت فيه الآن من معرفة لطبيعة البلاء، وصبرك عليه، وتفكيرك في أن يُمتيك الله على الخير هو بداية النجاح الأخروي الذي كنتَ قد ترسب فيه إذا ابتليت بالخير، كما حدث مع كثير ممن قد تغبطهم على حياتهم وما هم فيه من نعيم، ولن أطيل في الحديث عن البلاء لكن أختم معك بالتذكير بلحظة واحدة ستنسيك كل ما أنت فيه إذا تمسكت بأهداب الصبر والإيمان، وهي ما ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال له: يا ابن آدم، هل رأيت خيرا قط، هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب. ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسا قط؟ وهل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط" (رواه مسلم).

ثانيا- من مصائد الشيطان لبني الإنسان أن يضخم له ابتلاءاته حتى يقنِّطه من رحمة الله تعالى، أو يجرِّئه على ربه ويسخِّطه عليه والعياذ بالله؛ ولذلك أرجو ألا تقع في حبائله ولا تعطه هذه الفرصة، وأن تحذف من قاموسك ما ذكرته على نفسك "وأشعر أنني إنسان ملعون مكتوب عليه الشقاء" -قبل أن تستدرك وتستذكر عدل الله وفضله- فاللعن والعياذ بالله هو الطرد من رحمة الله، وإذا تملك هذا الشعور من إنسان فإنه لن يبكي على شيء بعده، وسيتمادى في معاداة ربه والبعد عنه، كما حدث مع إبليس عليه اللعنة. فأنت أخي في خير وإلى خير إن شاء الله ما تمسكت بما لديك من مظاهر صبر وإيمان تنضح بها رسالتك في بعض جوانبها.

ثالثا- يجدر بالمسلم أن يضع نصب عينيه دائما الهدف الذي أوجده الله تعالى من أجله وخلقه له في هذه الحياة الدنيا وهو عبادة الله تعالى، واستخلافه في هذه الأرض بإعمارها وتعبيدها لله تعالى؛ فإذا وضحت هذه الأمور فإن المسلم سيجعل جل همه كيفية القيام بها حق القيام، ولن يعوقه عن ذلك عائق، مهما كان به من بلاء ومرض، وكم رأينا من مبتلين لم يقعدهم بلاؤهم عن القيام بحق الله تعالى عليهم، وعلى رأسهم نبي الله أيوب عليه السلام، وغيره من الدعاة على مر الزمان الذين ابتلاهم الله بأضعاف ما ابتلاك به فما زادهم هذا إلا صبرا ويقينا وثقة وقربا ودعوة إلى الله تعالى.
أخي، اجعل هذه الأمور هي شغلك الشاغل بدلا من الاستغراق في التفكير السلبي في بلائك، وأنت لديك من العلم والثقافة والفهم ما يمكنك من هذا؛ بل وما هو حجة عليك إن قصرت فيه؛ فانشغل بما استعبدك الله به عما ابتلاك به؛ فانشغالك بالأول عن الثاني ستؤجر عليه، وانشغالك بالثاني عن الأول ستحاسب عليه ولن تملك له تغييرا ولا تبديلا.

رابعا- أرجو منك أخي الكريم أن تستثمر ما لديك من نقاط إيجابية أشرنا إليها في تغيير واقعك والتأثير فيه، وذلك من خلال:

1- تحسين الصورة الذهنية عن نفسك والانطلاق من إيجابياتك لتعزيزها وترسيخها والبناء عليها؛ فبدلا من أن يكون الضابط في اختيار الزوجة –مثلا- هو شعورك بالنقص فتختار بناء على هذا، كما فعلت وكانت النتيجة ما وصلت له، بدلا من ذلك كن واثقا من نفسك واجعل اختيارك مبنيا على الضوابط الإسلامية فاختر ذات الدين التي تصونك وتحفظك في مالك وعرضك، وثق أنك لن تعدم من ترضى بك من ذوات الدين رغم ظروفك.

2- موقفك من والديك كان ينبغي أن ينطلق من مبدأ الشفقة عليهما والخوف عليهما من عذاب الله تعالى بدلا من البغض والكره؛ فعليك أن تمارس معهما دورك الدعوي حتى ينصلح حالهما ويتركا ما هما فيه من مخالفات وذنوب؛ فصلاحهما سيكون سبيلا لإيجاد بيئة صحية حاضنة لك، وأذكرك هنا بأنها مهما فعلا فلهما عليك حق البر والتقدير، كما قال تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (لقمان: 15)، واستعن على كل ذلك بالدعاء لهما والإلحاح على الله أن يهديهما ويصلح أحوالهما.

3- إذا نجحت في تحسين صورتك الذهنية عن نفسك، وقمت بدورك في دعوة والديك، واستحضرت الهدف من خلقك في الحياة؛ فتنتقل إلى الدائرة الأوسع وهي علاقتك بالناس؛ فأنت بحاجة إلى صحبة صالحة تركن إليها وتعينك على ما أنت فيه؛ فالمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، ولن تعدم الصالحين الذين جعلهم الله تعالى أدلاء على الخير في كل مكان وزمان، وبهذا تتجاوز ما ذكرته من رسالتك "وقد كرهت كل الناس تقريبا وقطعت أرحامي ولم أعد أطيق من البشر أحدا نتيجة دماري شبه الكلي عصبيا ونفسيا وربما عقليا والانتهاء إلى الجنون عما قريب"؛ فعليك أن تحب نفسك أولا، ثم تحب من حولك وتصل بينك وبينهم روابط الأخوة الإسلامية والإنسانية.

4- إذا نجحت فيما سبق –وأثق أنك ستنجح إن شاء الله- فحينها لن يكون تفكيرك كيف تموت على خير كما ترجو وتدعو؛ بل سيكون تفكيرك: كيف تعيش في خير؟ وكيف تحول محنتك إلى منحة ربانية؟ وستكون دعواتك في عمرتك الرمضانية المقبلة: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيرا لي، مطبقا في ذلك السنة النبوية؛ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنى أحدكم الموت؛ إما محسنا فلعله يزداد، وإما مسيئا فلعله يستعتب (أي يسترضي الله بالتوبة)". وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه، فإن كان لا بد فاعلا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي".

5- أخيرا أخي الحبيب فإن حاجة الإنسان إلى العلاج تكون أكثر عند المرض، وأنت فيما أنت فيه أحوج ما تكون إلى تقوية علاقتك بربك من خلال الاستزادة من الطاعات والعبادات والإكثار من النوافل وتلاوة القرآن والمحافظ على الأذكار (المقيدة والمطلقة)، وطلب الدعاء من الصالحين.

وأرجو أن توفينا بأخبارك، ولا تحرمنا من صالح دعائك.