<p>لماذا نشاهد غياب الضمير في تعاملاتنا اليومية؟ لماذا أزمة الضمير متفشية في الحياة رغم مظاهر التمدن والتحضر؟</p>
أخي الكريم، سؤالكم عن أزمة يعاني منها غالبية البشر الموجودين على الأرض، وهي تراجع الضمير كمانع للخطأ، وتراجع وخز الضمير كندم على الخطأ؛ لذا بتنا نسمع في كثير من الجرائم أن فاعلها ارتكبها "بدم بارد"، وهذا البرود أحد تجليات موت الضمير أو تجميده كضابط للسلوك.
صوت الفطرة
الضمير هو صوت الفطرة في الإنسان، فهو المعيار الفطري للصواب والخطأ والحلال والحرام والخير والشر التي وضعها الخالق سبحانه وتعالى في النفس البشرية، والتي تبعث بتأنيبها للإنسان إذا ارتكب خطأ أو فعلا محرمًا، وكما يقول الأديب فيكتور هوجو: "الضمير هو صوت الله في الإنسان"، فهذا الصوت الفطري يعلو مع أول خطأ أو خطيئة فإذا انصاع لها الإنسان وسمع تعنيفها وتأنيبها، فإن هذا الصوت يعلو دومًا ليشكل رقابة ذاتية على أفعال الإنسان وسلوكياته، بل وعلى نواياه وما تخبئه النفس من أسرار.
أما إذا صم الإنسان بصيرته عن سماع صوت ضميره الداخلي فإن هذا الصوت يضمر، ويتوارى مع كثرة الأخطاء ليصبح صوتًا بعيدًا ومتلاشيًا لا يُسمع، ولذا يقترف الشخص الخطأ دون أي وخز من ضمير؛ بل يزداد في ابتعاده ليؤنبه ضميره على فعل الصواب الذي انفلت فجأة منه دون وعي.
والحقيقة أن إحياء الضمير ذو عائد اقتصادي وتنموي ضخم، لو تم الانتباه إلى جدواه، فأزمة الضمير أحدثت رواجًا في سوق كاميرات المراقبة في كل العالم، في تقرير صدر في (130) صفحة عن سوق كاميرات المراقبة المنزلية المتوقع في الفترة من 2024 حتى 2030م، تم تقدير حجم سوق كاميرات الأمن المنزلية الذكية العالمية بنحو 9.98 مليار دولار أمريكي في عام 2024 ومن المتوقع أن يصل إلى 56.47 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2033، واستحوذت أمريكا الشمالية أي الولايات المتحدة وكندا على 41% من هذا السوق، ويعني هذا أن التحضر المادي والتكنولوجي والرقي التعليمي والمدن العظيمة لم تستطع أن تصلح الضمير بما أنشأته من تكنولوجيا ومعاهد علمية ومبان عظيمة.
يجري التسويق لكاميرات المراقبة المنزلية بسبب تزايد سرقات المنازل وتزايد اقتحامها عنوة من اللصوص، وأن وجود المراقبة قد يردع اللص عن السرقة واقتحام المنزل.
لكن هذا الكم الهائل من الكاميرات لم يؤد إلى تراجع الجريمة، أو تقليل عملية السرقة، فنجد في منطقة إنجلترا وويلز (وليس كل بريطانيا) مثلا تقريرًا رسميًّا يحصي عدد السرقات المنزلية عام 2023-2024 بأكثر من (181) ألف جريمة بمعدل (481) جريمة يوميًّا، أي أن منزلاً يتعرض للسرقة كل دقيقتين، أما في منطقة لندن فقد بلغت السرقات المنزلية أكثر من (37) ألفًا، أي ما يعادل (103) يوميًّا، بمعدل سرقة كل (14) دقيقة.
وتشير إحصاءات إلى أن عدد جرائم السرقة في بريطانيا عام 2024 زادت على المليون جريمة، وفي الولايات المتحدة بلغت جرائم سرقة السيارات عام 2024 (880) ألفًا.
هذا بند واحد من الجرائم المرتكبة، ناهيك عن جرائم القتل والاغتصاب والاختلاس والتزوير والتبديد... إلخ، وتلك الإحصاءات في أكبر البلدان المتحضرة في العالم تعليمًا وتكنولوجيًّا وقوةً وقانونًا، فكيف بالبلدان النامية وذات الدخل المتدني والتعليم المتراجع.
إهمال البعد التزكوي
كاميرا المراقبة أصبحت أداة للضبط السلوكي، وتحقيق الحماية المجتمعية من الجريمة، لكن التكنولوجيا لم تستطع أن تشيّد النظام المثالي في السلوك الإنساني مع غياب الضمير.
لا شك أن الضمير هو نتاج الوعي الديني والمراقبة الدينية، فإذا غاب الدين تراجع معه الضمير، وليس المقصود بالدين الشعائر الظاهرة فقط أو الكلمات والملابس ذات الصبغة الدينية، ولكن أن يمارس الدين في نفس الإنسان دورًا تزكويًا، ينقي ذات الإنسان، ويجعل منها رقيبًا عليها قبل رقابة القانون أو ردع العقوبة.
وقد حظي التراث التربوي والتزكوي في الحضارة الإسلامية بمادة زاخرة لإحياء الضمير وإمداده بما يقويه ويجعله دائم اليقضة، هذا التراث لو تم استدعاؤه فإنه سيعالج الخلل في كثير من المناهج التربوية المقتبسة من تجارب أخرى خاصة الغربية، والتي يغيب الكثير منها الإيمان والدين كفاعل لإيجاد فعالية الضمير في النفس الإنسانية.
وقد أخذ البعد التزكوي لإحياء الضمير في النفس حيزًا من الاهتمام، وكان هؤلاء التربويون يبثون في روع المسلم ضرورة "مراعاة السر بملاحظة الغيب مع كل لحظة ولفظة"، ومعنى هذا أن حضور الغيب هو حضور للضمير، وإلغاء الغيب هو إلغاء وشطب للضمير من الإنسان.
يقول الأديب "ماريو بينيديتي" في روايته "بقايا قهوة": "لقد توصلت بالنهاية إلى أن الضمير هو جنتنا وجحيمنا في الوقت نفسه، يوم الحساب والعقاب المشهور نحمله هنا، في صدورنا، ونحن في كل ليلة عن غير وعي منا نواجه يوم الحساب.. وحسب الحكم الذي يصدره ضميرنا، ننام مرتاحين أو نغرق في الكوابيس.. نحن قاضٍ وطرف، مدعٍ عام ومحام".
روابط ذات صلة: