<p style="direction: rtl;">أبحث عن خيط أمل لابني... قبل أن أفقده وأفقد نفسي إلى المستشارة الفاضلة، أكتب لكِ اليوم وقلبي يعتصره الألم، ودموعي تسبق كلماتي. لم أعد أعرف من أنا، فأنا أمٌ أراها تنهار كل يوم، تقف عاجزة وهي ترى ابنها، فلذة كبدها، يضيع أمام عينيها.ابني الذي أراه يكبر، والذي بلغ السادسة عشرة من عمره، أصبح غريباً في بيته. تحول إلى شبح يسكن خلف باب غرفته المغلق دائماً. وعندما يُفتح هذا الباب لثوانٍ معدودة، لا أرى فيه ذلك الطفل الذي ربيته، بل أرى نظرات باردة تخترقني وتجمد الدموع في عيني.</p> <p style="direction: rtl;">أصبحت كلمة "أهلاً" التي قد أسمعها منه بالصدفة، هي أجمل أمنياتي.حياته كلها أصبحت شاشة. سواء كانت شاشة الهاتف، أو اللابتوب، أو البلايستيشن، هي عالمه الوحيد ورفيقه الذي لا يفارقه.</p> <p style="direction: rtl;">أما أنا والمدرسة وكل ما هو خارج غرفته، فقد أصبحنا مجرد إزعاج. تتوالى الاتصالات من المدرسة، شكاوى من الغياب، وتدهور حاد في الدرجات. كل اتصال هو بمثابة سكين يغرس في قلبي، يذكرني بفشلي.</p> <p style="direction: rtl;">صدقيني يا دكتورة، لقد جربت كل شيء يخطر على بالك. احتضنته بحنية حتى شعرت أنه يختنق من اهتمامي، وعاملته بشدة حتى خشيت أن أكسره. عاقبته بحرمانه مما يحب، وكافأته لأشجعه. تحدثت معه بقلب مفتوح ودموعي تنهمر على وجهي، توسلت إليه أن يخبرني ما به... لكن كل محاولاتي كانت ترتطم بجدار من الصمت واللامبالاة. أشعر أنني أم فاشلة، وأن كل طاقتي قد استُنزفت.</p> <p style="direction: rtl;">سؤالي لكِ اليوم، وأنا على حافة اليأس: هل ما زال هناك أمل؟ هل هناك طريقة يمكنني بها أن أصل إلى قلبه وعقله؟ كيف يمكنني أن أكسر هذا الحاجز الجليدي الذي بناه حوله؟ لم أعد أبحث عن نظريات، بل عن خطوة عملية واحدة تعيد لي ابني، لأني أصرخ في داخلي كل ليلة: "لقد تعبت... واستسلمت".</p>
أختي العزيزة،
أشعر بصدق ألمك، وأتلمّس من كلماتك دموعًا مكتومة وصوتًا مبحوحًا من كثرة النداء.. فوالله إن الأمومة امتحان عظيم يرهق القلب قبل الجسد. وأنت لستِ أُمًّا فاشلة كما تظنين، بل أنت أم تبذل وتبحث عن خيط أمل، وهذا في حد ذاته دليل حبك العميق ووفائك لرسالتك.
وتعالي معي حبيبتي لأحدثك وأضع الأمر بين يديكِ بشكل علمي وبمنتهى الواقعية والهدوء:
أولًا: لا بد من فهم المرحلة العمرية لابنكِ الغالي..
في عمر السادسة عشرة يمر هو ومن في مثل عمره، بما يسميه علم النفس التربوي مرحلة المراهقة المتأخرة late adolescence، وهي مرحلة تتسم ببحث المراهق عن identity formation أو تشكيل الهوية ورغبته في autonomy الاستقلالية.
هنا ينعزل أحيانًا ليبني عالمه الخاص، ويبدو كأنه غريب، لكنه في الحقيقة يبحث عن نفسه بين صخب المشاعر والتغيرات الجسدية والضغوط الاجتماعية.
إذن، ما ترينه "جدارًا جليديًّا" ليس دائمًا رفضًا لك، بل قد يكون آلية دفاعية، يختبئ خلفها ليحمي ذاته المرتبكة.
ثانيًا: بالفعل العالم الرقمي له تأثير..
لكن انغماسه في الشاشة ليس مجرد تسلية، بل محاولة لإيجاد virtual identity أو هوية افتراضية تُشعره بالسيطرة والانتماء، في حين أن الواقع بالنسبة له مليء بالتحديات والانتقادات. وهذا لا يعني الاستسلام له، لكن الفهم يُخفف القسوة ويتيح مدخلًا صحيحًا للتعامل معه.
ثالثًا: انتبهي لهذا الخطأ الشائع الذي تقع فيه غالبية الأمهات..
محاولتك بين الاحتضان المفرط والشدة الزائدة والعقاب بالحرمان والمكافآت كلها أدوات تربوية صحيحة في مواضعها، لكنها حين تتأرجح بلا اتزان فهي تُربك المراهق، وتُفقدك أنتِ أيضًا الثقة بجدوى أسلوبك.
في علم النفس التربوي نُسمي هذا inconsistent parenting أو التربية غير المتسقة، وهو نمط تربوي يتسم بعدم اتساق الآباء في توقعاتهم أو سلوكهم تجاه أطفالهم أو مراهقيهم، حيث تتغير قواعد العقاب والنتائج، أو يتم تجاهل سلوك معين اليوم بينما يُعاقب عليه غدًا؛ ما يؤدي إلى إرباك الطفل وعدم قدرته على فهم ما هو متوقع منه، وقد يؤدي إلى مشاكل سلوكية، حيث تجعل المراهق أكثر انسحابًا، وخاصة إن كان هذا النمط يُمارس عليه منذ الطفولة.
رابعًا: إليك هذه الخطوات العملية التي أوصيك بها كما طلبتِ:
1- عليك بإعادة بناء العلاقة بينك وبين ابنك لا تقويم السلوك فقط..
فلا تركّزي أولًا على الدرجات أو الغياب، بل على استعادة emotional connection الرابطة العاطفية. قولي له: "أنا أفتقدك كابني، أكثر مما أقلق على درجاتك". هذه الجملة وحدها تذيب بعض الجليد.
2- امنحيه مساحة استقلالية محسوبة..
هيئي له الفرص لاتخاذ قرارات صغيرة في حياته (جدول نومه، طريقة مذاكرته، حتى اختيار ملابسه وشرائها)، فهذا يعزز self-efficacy فاعلية الذات لديه.
3- افتحي له قنوات تواصل غير مباشرة..
أحيانًا يفتح المراهق قلبه في أنشطة مشتركة، مثل: قيادة السيارة معه، أو رياضة، أو حتى إعداد طعام.. أي أنشطة مشتركة أفضل من الجلوس وجهًا لوجه تحت ضغط الحوار.
4- وازني بين الحزم والرحمة..
فرسولنا -عليه الصلاة والسلام- علّمنا أن: "ما كان الرفق في شيء إلا زانه".. فلا تستسلمي للفوضى، لكن اجمعي بين الحزم الهادئ والرحمة الحانية.
5- حاولي دائما التعاون مع المدرسة باحتواء لا بصدام..
وبدل من أن تجعلي الشكاوى خنجرًا في قلبك، اجعليها فرصة للتعاون مع المدرس أو المرشد الطلابي في خطة بسيطة وواقعية لدعمه ومطمئنة لك.
وأخيرا، أبذلي الجهد معه قدر استطاعتك مع الأخذ بجميع الأسباب الممكنة، ثم اتركي بعد ذلك الأمر لله تعالى، فهو الذي يربي، الهداية بيده وحده عز وجل، ودورك فقط ما ذكرت لك مع النصح والإرشاد باحتواء دائمًا، فقد قال تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾.
ثم اجعلي الدعاء له سلاحك الدائم ولا تملّي منه، فقد قال رسول الله ﷺ: "ثلاثُ دَعواتٍ لا تُرَدُّ: دعوةُ الوالِدِ لِولدِهِ، ودعوةُ الصائِمِ، ودعوةُ المسافِرِ".
وإياكِ أن تسمحي لليأس بأن يسكنك؛ فالمراهق يتغير كثيرًا، واليوم الذي ترينه شبحًا قد يكون غدًا رجلاً ناضجًا يقدّر دموع أمه ومشاعرها.
* وتذكري حبيبتي الغالية: ابنكِ لم ينضج بعد، بل هو في مرحلة ارتباك. ومهمتك الآن أن تكوني له ميناءً آمنًا لا قيدًا خانقًا.
وخطوة عملية مهمة وأخيرة أُوصيك بها الآن: يجب أن تبني جسرًا صغيرًا مع ابنك كل يوم دون نقد، بكلمة حانية، أو دعاء مسموع، أو لحظة مشاركة بسيطة.. فالجسور الصغيرة إذا استمرت تصير طريقًا واسعًا للعودة.
* همسة أخيرة لأختي الغالية:
أنت لستِ أُمًّا فاشلة، بل أم تبحث عن الأمل، وهذا وحده أعظم برهان على نجاحك.
أسأل الله تعالى لابنك الهداية والبر وصلاح الأحوال.