<p>هل هناك علاقة بين الفلسفة المادية وبين تراجع الرحمة في المجتمعات؟ ولماذا تغيب الرحمة عن الماديين؟</p>
الصورة القادمة من غزة تهز كل إنسان له ضمير؛ فالجوع ينهش الجميع بعدما حوّل الأجساد لهياكل شديدة الضعف، وهو ما يُذكِّر بمعسكرات الإبادة في الحرب العالمية الثانية، وبخاصة معسكر "أوشفيتس" النازي الذي تم فيه تجويع اليهود وإحراقهم في أفران الغاز، فما بين العام 1942م والعام 1944م قُتل أكثر من مليون إنسان، غالبيتهم من اليهود، ويبدو أن الصهيونية تمارس نفس الفظائع مع مئات الآلاف من الأبرياء في غزة وبصورة مماثلة، لكن بصورة أكثر وحشية لأنها تجري أمام الكاميرات وأعين الناس؛ فغالبية ضحايا غزة لكل واحد منهم قصة وصورة توثق الرحمة المنتزعة من القتلة ومن الصامتين.
غياب الرحمة هو إحدى تجليات الفكر المادي المتفشي، والذي بات ينظر للمعاناة والمأساة كمادة للتسلية أو للربح، أو ضريبة لا بد أن تُدفع قبل التخلص من الأشخاص والمجتمعات غير المرغوب فيها.
من الضروري فهم دور المادية في تفكيك العلاقة بين الرحمة وجذرها الديني والأخلاقي؛ فالمادية القائمة على المنفعة والربح، ترى أن الرحمة يجب أن يكون لها ثمن، وإذا انتفى الثمن فلا مكان للرحمة؛ والأغرب أن بعض الماديين نظر للرحمة على أنها سلوك قادم من الحيوان.
ولعل هذا ما ضيّق حضور الرحمة في الفلسفة المادية، وأبعد الماديين عن التخلق بالرحمة؛ فالمادية ترى في الرحمة سلوكًا عديم النفع إذا لم تُنتج ربحًا ومنفعة.
وفي المجتمع الحديث أصبحت المادية أشد توحشًا، فتضاءلت الرحمة في تلك المجتمعات التعاقدية، وكــأن الحياة والعلاقات الإنسانية عبارة عن بنود في عقد بين بائع ومشتر وليس نتاجًا لجانب أخلاقي يرتكز على جذر ديني.
في هذا المجتمع الحديث لعب الإعلام بشتى صوره دورًا في تغذية المادية والنفعية على حسب الرحمة والتراحم، فقد ربط الإعلام بين السعادة والمال والنجاح في الحياة، فخلق هوسًا بالاستهلاك، ولهاثًا وراء المنصب وتحقيق الذات في مجال العمل.
هذا الهوس واللهاث لا يترك مكانًا للرحمة بعدما أصبحت مقاييس السعادة مادية بحتة، وأصبحنا نلاحظ ما أسماه الفيلسوف "زيجمونت باومان" بـ"الأرواح المهدرة"، حيث تغيب الرحمة في التعامل مع المهاجرين والمغتربين في المجتمعات المادية، وبات يُنظر إلى هؤلاء على أنهم "نفايات بشرية".
ويجب أن تلاحظ -أخي الكريم- أن المادية تنظر للرحمة على أنها الوجه الآخر للضعف والفقر، وهما من الأمور التي لا يتعاطف معها الفكر المادي، ومن ثم تنظر المادية نظرة اللامبالاة لتلك الآلام.
والملاحظ -أخي الكريم- أن المنافسة التي يقوم عليه الفكر المادي والرأسمالي لا تعترف إلا بالنجاح والربح كغاية سامية، ومع تأسيس المجتمعات المادية الحديثة على الفردية وعدم التدخل، ظهرت اللامبالاة بالآلام وتراجع التعاطف والرحمة، فنجد –مثلا- الاحتقار للضعف كان جوهر النازية، فرؤاها الفلسفية قائمة على استئصال الضعف وإبادته والتخلص من الضعفاء المرضى.
وربما هذا ما صاغة "ديزموند توتو" كبير أساقفة جنوب أفريقيا السابق الحائز على جائزة نوبل للسلام عام 1984م، بلغة واضحة في كتابه "الله لديه حلم" God Has a Dream بقوله: "في المجتمعات الرأسمالية فإن الخطيئة التي لا تُغتفر هي الفشل، وبالتالي، فإن البقاء للأصلح والشيطان يأخذ من يتأخر، إنها منافسة لا هوادة عندما نسعى جاهدين لتحقيق النجاح بأي ثمن".
فمع تلك العقلية المادية نادرًا ما يوجد مجال للرحمة، وهنا يتم احتقار الضعف والفقر والحاجة، رغم أنها من مكونات الوجود الإنساني؛ فالأديان السماوية تُعلِّم الإنسان أن الفقر والضعف والحاجة هي الابتلاء الذي يفرض على الإنسان أن يرحم من خلاله أخاه ويساعده.. لكن في المجتمع المادي القاسي بات يُنظر للرحمة على أنها أمر غير لائق على اعتبار أن "الرحمة والتعاطف يُضعفان القدرة التنافسية للفرد".
وأخيرًا -أخي الكريم- تبدو نفعية الرحمة في الفكر المادي من خلال النظر إليها كمفهوم وسلوك ضروري لتحقيق التماسك الاجتماعي، وليس اقتناعًا بأن الرحمة فكرة أخلاقية مجردة تتنزل في السلوك الإنساني.