لماذا «الحج عرفة»؟ ولماذا لا يُجبَر فواته بشيء؟

<p>سؤالي يتعلق بيوم عرفة، هذا اليوم العظيم الذي نسمع عن عظمته الكثير.</p> <p>أرجو أن توضحوا لي لماذا اكتسب هذا اليوم هذه الأهمية والعظمة؟ لدرجة أن يختصر النبي -صلى الله عليه وسلم- الحج فيه، ويقول: &quot;الحج عرفة&quot;، ويجعل فواته على الحاج لا يجبره شيء؟</p>

مرحبًا بكِ أختي الكريمة، ونشكركِ جزيل الشكر على تواصلك معنا، أسأل الله أن يبارك فيكِ، وأن يرزقكِ فهمًا عميقًا لدينه، وأن يكتب لكِ الأجر العظيم على حرصكِ وسعيكِ للمعرفة، وبعد...

 

فإن يوم عرفة ليس مجرد يومٍ عاديٍ في التقويم الهجري، بل هو جوهرة الأيام، ودرة المواسم، ومفتاح الرحمات، وسرٌّ من أسرار عظمة هذا الدين الحنيف. إنه يومٌ تتجلى فيه رحمة الله الواسعة، وعفوه الشامل، وكرمه الذي لا ينتهي.

 

وقد اكتسب هذا اليوم هذه الأهمية والعظمة من الخصائص التالية:

 

1- يوم إتمام النعمة وإكمال الدين:

 

إن من أعظم أسباب عظمة يوم عرفة، أنه اليوم الذي أتم الله فيه نعمته على هذه الأمة، وأكمل لها دينها، ورضيه لنا منهجًا للحياة. تخيَّلي يا أختي أن هذا الدين العظيم الذي جاء ليُنير دروب البشرية، ويُخرجها من الظلمات إلى النور، قد اكتملت معالمه وتشريعاته في هذا اليوم المبارك. يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]. لقد نزلت هذه الآية الكريمة على النبي ﷺ وهو واقفٌ بعرفة في حجة الوداع. وهذا يعني أن الله –تعالى- قد شهد لهذا الدين بالكمال والتمام، وأن نعمه علينا قد بلغت أوجَها. فما أعظمها من منزلةٍ ليومٍ اختاره الله ليكون شاهدًا على هذا الإنجاز العظيم!

 

2- يوم المغفرة الكبرى والعتق من النيران:

 

يوم عرفة هو يومٌ تتسابق فيه الرحمات، وتتوالى فيه المغفرة، وتُفتح فيه أبواب السماء. إنه اليوم الذي يُعتق الله فيه من النار أكثر مما يُعتق في أي يومٍ آخر. في هذا اليوم يتجلى عفو الله على عباده، ويُباهي بهم ملائكته الكرام. يقول النبي ﷺ: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟» [صحيح مسلم]. فما أعظم هذا الكرم! ولا يقتصر فضل المغفرة على الحجاج الواقفين بعرفة فحسب؛ بل يشمل غير الحجاج أيضًا. فصيام يوم عرفة لغير الحاج يُكفِّر ذنوب سنتين، وهذا فضلٌ عظيمٌ لا يُضاهى. قال رسول الله ﷺ: «صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده» [صحيح مسلم].

 

3- «الحج عرفة».. سرُّ العظمة:

 

السؤال الأهم الذي طرحته –أختي الفاضلة- والذي يُلخص عظمة هذا اليوم، هو قول النبي ﷺ: «الحج عرفة» [رواه الترمذي وغيره، وصححه الألباني]. لماذا اختصر النبي ﷺ الحج كله في هذا اليوم؟ ولماذا جعل فواته على الحاج لا يجبره شيء؟

 

وألخص لك إجابة هذا السؤال في التالي:

 

- ركن الحج الأعظم: إن الوقوف بعرفة هو الركن الأعظم من أركان الحج. فالحج لا يصح بدونه. إذا فات الحاج الوقوف بعرفة، فقد فاته الحج كله، ولا يُمكن تداركه بدمٍ أو بغيره. هذا يُظهر الأهمية القصوى لهذا الوقوف.

 

- رمزية الوقوف: عرفة ليس مجرد مكان، بل هو رمزٌ عميقٌ للتجرد، والتذلل، والوقوف بين يدي الله تعالى. ملايين البشر، من كل حدبٍ وصوب، بشتى ألوانهم ولغاتهم، يقفون على صعيدٍ واحد، بلباسٍ واحد، لا فرق بين غني وفقير، ولا بين حاكمٍ ومحكوم، كلهم يرفعون أيديهم إلى السماء، يرجون رحمة الله وعفوه. هذا المشهد يُجسّد يوم الحشر المصغر، ويُذكّر بيوم القيامة، حيث يقف الناس جميعًا بين يدي ربهم.

 

- يوم الدعاء والابتهال: في عرفة، تُستجاب الدعوات. إنه يومٌ يفرغ فيه الحاج قلبه لله، ويُناجيه بكل ما في صدره من آمالٍ وآلام. إنها لحظةٌ من التواصل الروحي العميق، حيث يشعر العبد بقرب الله منه، وبأن دعواته مسموعة. قال النبي ﷺ: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» [رواه الترمذي]. هذا يُبيّن أن الدعاء في هذا اليوم له منزلةٌ خاصةٌ عند الله، وأن الله يستجيب لعباده فيه استجابةً عظيمة.

 

- التعويض المستحيل: إن فوات الوقوف بعرفة لا يجبره شيء؛ لأنه يُشكل جوهر الحج وروحه. الحج ليس مجرد مناسك تُؤدى، بل هو رحلةٌ روحيةٌ عميقة، تتوج بالوقوف في عرفة. هذا الوقوف هو لحظة التطهير، والتجديد، والعهد مع الله. فإذا فاتت هذه اللحظة، فاتت الروح الحقيقية للحج، ولم يبقَ إلا الجسد بلا روح.

 

وختامًا أختي الفاضلة، إن يوم عرفة هو يومٌ مباركٌ عظيم، يُذكّرنا بعظمة الله ورحمته، وبكمال دينه، وبفضل التوبة والمغفرة. سواء كُنتِ من الواقفين بعرفة، أو من الساعين إلى الله في موطنك وبيتك، فإن هذا اليوم يُعد فرصةً ذهبيةً لتجديد العهد مع الله، والتضرع إليه، وطلب المغفرة والعتق من النيران. فلنحرص جميعًا على اغتنام هذا اليوم بالدعاء، والذكر، والتلاوة، والتوبة الصادقة، والصيام لغير الحاج، عسى الله أن يُكرمنا بفضله العظيم، وأن يجعلنا من عتقائه من النار، وأن يرزقنا حج بيته الحرام في القريب العاجل. نسأل الله أن يتقبل منا ومنكِ صالح الأعمال، وأن يجعلنا من المقبولين عنده في هذا اليوم العظيم.