<p>السلام عليكم دكتورة، يعطيكي العافية، أنا صراحة عم خاطبك لأنو وضعي صعب كتير ومحتاج نصيحة من حدا واعي وحنون مثلك...</p> <p>الله رزقني من شي شهر بطفل صغير، أول طفل إلنا، بس للأسف، زوجتي بعد الولادة مرضت بحمى النفاس وصارت وضعها الصحي كتير دقيق، والدكتورة طالبة منها راحة تامة وما لازم تقوم ولا تتعب حالها أبدًا...</p> <p>المشكلة إنو نحنا لحالنا بهالبلد، لا أهل ولا حدا يساعدنا، وما في مين يشيل عني، وأنا مضطر أشتغل كمان حتى أوفر مصاريف البيت والعلاج، وطفلي الصغير بدو رضاعة ونظافة وهدوء، وأنا والله حاسس حالي تايه وما بعرف شو أعمل...</p> <p>عم حاول أكون أب منيح، بس مو قادر أوازن بين كلشي، مرات بحس بالتقصير مع إبني، ومرات بحس إني مأصر مع مرتي، والتعب عم يوصلني لمرحلة فقدان أعصابي...</p> <p>بترجاكي، عطيني طريقة أقدر فيها أرعى إبني صح بهالظرف، وأحافظ على استقرار بيتي، بدون ما أدمّر حالي من التعب أو أظلم حدا منن...</p> <p>وشكرًا من قلبي على سعة صدرك.</p>
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أيها الأب النبيل…
أحيِّي فيك هذا الوعي الكبير، والشعور العميق بالمسؤولية، رغم ما تمر به من تعب نفسي وجسدي. كلماتك تفيض صدقًا وإنهاكًا، وأشهد أنك –رغم كل الحيرة– تمارس أرقى معاني الأبوة الحقيقية.
دعنا نبدأ بتفكيك مشكلتك من خلال ثلاثة أبعاد مترابطة: البُعد الإنساني النفسي، والتربوي، والواقعي العملي.
أولًا: البُعد النفسي:
ما تعانيه الآن يدخل تحت مسمى Parental Burnout، أي الإرهاق الأبوي، وهي حالة تصيب أحد الوالدين عندما يتحمّل لفترة طويلة مسؤوليات مضاعفة دون دعم أو فُسحة للراحة.
ومن الطبيعي جدًّا، في غياب شبكة الدعم الاجتماعي أن يشعر الإنسان بارتباك وذنب وتقصير، رغم أنه يبذل قصارى جهده.
في هذه اللحظة، أنت تحتاج إلى إعادة توزيع الجهد، لا لتكون مثاليًّا، بل لتكون واقعيًا. فقد قال رسول الله ﷺ: "إنَّ لبدنكَ عليكَ حقًّا، وإنَّ لأهلِكَ عليكَ حقًّا". فلا تُحمِّل نفسك فوق طاقتها، فإن الله عز وجل قال: ﴿لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها﴾، ويكفيك شرف النية والبذل، لا الكمال.
ثانيًا: البُعد التربوي:
رعاية الطفل في الشهر الأول من عمره ترتكز على ثلاثة احتياجات أساسية: الحضن – الرضاعة – النظافة، وكل ما عدا ذلك لا يزال في طور النمو التدريجي.
في هذه المرحلة، يُوصي علم النفس النمائي بالتركيز على ما يسمى "Attachment Bonding"، بمعنى تكوين رابطة آمنة مع الطفل، وهذا لا يتطلب منك أن تكون موجودًا دائمًا، بل أن تكون موجودًا بصدق وهدوء في اللحظات القصيرة التي تتاح لك، مثل: لحظة تغييره، تهدئته وقت بكائه، حمله برفق، النظر إليه بعين الحب حتى ولو لدقائق.
هذه اللحظات الصغيرة، تُحدث تأثيرًا عظيمًا في بناء الأمان الداخلي للطفل، وهي نمط من أنماط المرفقات الآمنة للطفل، ومعروفة بـ Secure Attachment Style، وهي أساس توازن الطفل النفسي مستقبلًا، ومهم جدًّا أن ينتبه إليها كل ولي أمر.
ثالثًا: البُعد الواقعي العملي:
* وهنا أقدم إليك بعض الخطوات التي قد تساعدك على التخفيف من الضغط، دون أن تفرّط في أحد الجانبين:
1- قسّم يومك وفق الأولويات، بحيث تضع أوقاتًا قصيرة منتظمة لرضاعة الطفل أو تغييره (حتى لو كانت بالرضاعة الصناعية إن اضطرت الأم للراحة)، وأوقاتًا مخصصة لعملك، مع محاولة أخذ قيلولة صغيرة أثناء نوم الطفل، حتى تستطيع أن تواصل رعايتهما.
2- هيئ مكانًا آمنًا للرضيع قرب زوجتك، بحيث يمكن مراقبته بسهولة دون الحاجة لحمله طويلاً.
3- استعن بالخدمات المجتمعية أو الرقمية إن توفرت، مثل استشارة طبية عبر تطبيق أو توصيل مستلزمات الطفل حتى باب البيت، لتقليل الجهد الميداني.
4- خصص وقتًا بسيطًا لزوجتك، ولو بكلمة طيبة أو لمسة حنونة، فهذا يخفف عنها شعورها بالضعف، ويجعلها تشعر أنك شريك حقيقي في الأزمة.
5- وإن أتاحت لك ظروفك المادية بأن تستعين بجليسة للطفل والأم معا أثناء ذهابك للعمل، فاستخر الله ثم تخير مصدرًا آمنًا لتوفير هذه الممرضة أو الجليسة.
*همسة أخيرة:
يا أخي الكريم، إن ما تمر به هو اختبار حياة لا اختبار قدرات، والرحلة مع الأبناء تبدأ دائمًا بمزيج من الألم والرجاء، لكنّ الله يُربِّي عباده كما يُربّون أطفالهم، ويمتحنهم ليزكّيهم، لا ليعذّبهم.
طمئن قلبك، فأنت لست مقصِّرًا، بل أنت مجاهد في ميدان عظيم، وقد وُعد المجاهدون بثواب عظيم إن شاء الله تعالى.
أسأل الله أن يشفي زوجتك ويبارك لك في مولودك وأن يعينك على ما كُلفت به.