السعي للسعادة.. طموح ناضج أم قلق خفي؟

<p>السلام عليكم ورحمة الله..</p> <p>في لحظة صفاء هادئة مساء الخميس، خطرت لي فكرة شغلتني: لو كانت السعادة تكمن في شيء واحد فقط، لتوقّف الإنسان عن الحلم، وتوقّف عن السعي، بل ربما توقّف عن الحياة ذاتها...</p> <p>هل نحن نُطارد السعادة أم نُخلق لنبحث عنها دائمًا؟</p> <p>وهل كثرة الأهداف وتعدد صور السعادة دليل على النضج، أم على قلق داخلي لا ينتهي؟</p> <p><span dir="RTL">أرجو منكم توجيهًا أو تعليقًا يضيء لي هذا المعنى.</span></p>

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. ومرحبًا بك أخي الفاضل، وأشكرك جزيل الشكر على مشاركتنا هذه الخواطر الطيبة. نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يفتح عليك فتوح العارفين، وأن ينير بصيرتك، ويزيدك حكمة ويقينًا، وأن يرزقك سعادة الدنيا والآخرة، وبعد...

فهيا نتلمس معًا ونستكشف هذه المعاني العميقة، والتساؤلات التي طرحتها في رسالتك...

 

هل نحن نُطارد السعادة أم نُخلق لنبحث عنها دائمًا؟

 

أخي الحبيب، إن طبيعة الإنسان مفطورة على البحث عن السعادة، فمنذ اللحظة الأولى التي نفتح فيها أعيننا على الدنيا، ونحن نسعى لتحقيق شعور الراحة والبهجة. وهذا السعي ليس عبثًا، بل هو جزء من تصميم إلهي بديع.

 

الله -سبحانه وتعالى- خلقنا في هذه الدنيا لحكمة عظيمة، ومن هذه الحكمة أن نعيش رحلة كشف واكتشاف، رحلة مليئة بالتعلم والتجارب.

 

إن السعادة بالمنظور الإيماني رحلة مستمرة من الشكر والصبر والرضا. لو كانت السعادة شيئًا ثابتًا ومحصورًا في شيء واحد، لفقدت الحياة معناها وتوقف الابتلاء، ولما كان هناك فضل لمن يجاهد ويصبر ويشكر. تأمل معي قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، فالعبادة هنا ليست مجرد شعائر، بل هي كل ما يرضي الله من قول وفعل، ومنها السعي في الأرض وعمارتها والبحث عن الخير والسعادة بالطرق المشروعة.

 

إن السعادة الحقيقية تكمن في القرب من الله عز وجل. فكلما ازددنا قربًا من خالقنا، شعرنا بسلام داخلي لا تزعزعه أمواج الدنيا. يقول النبي ﷺ: «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له» [رواه مسلم]. إذن، السعادة ليست في وجود السراء فقط، بل في كيفية التعامل مع السراء والضراء على حد سواء، وكلاهما يقود إلى الخير بفضل الشكر والصبر.

 

إننا –أخي الحبيب- نسعى للسعادة التي لا تنفصل عن الرضا والتسليم. هذه السعادة التي تنبع من الإيمان الصادق بأن كل ما يحدث لنا هو خير من الله، وأن الله يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر.

 

هل كثرة الأهداف وتعدد صور السعادة دليل على النضج، أم على قلق داخلي لا ينتهي؟

 

أخي الكريم، إن كثرة الأهداف وتعدد صور السعادة يمكن أن يكونا علامة على النضج والطموح الإيجابي، وفي الوقت نفسه قد تكون مؤشرًا على قلق داخلي إذا لم تُوَجَّه بشكل صحيح.

 

تكون دليلًا على النضج إذا كانت الأهداف نابعة من رغبة في النمو والتطور والإسهام في الخير، وكانت هذه الأهداف متوافقة مع القيم الإسلامية ومع مفهوم العبودية لله. فالإنسان الناضج هو من لا يكتفي بما هو عليه، بل يسعى دائمًا للأفضل، لتعمير الأرض، لخدمة الدين والمجتمع.

 

وتعدد الأهداف هنا يعني أن الإنسان يرى الخير في مجالات متعددة، ويسعى لتحقيقها بما يرضي الله. تأمل معي قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 162]. هذه الآية تعلمنا أن كل جانب من جوانب حياتنا يمكن أن يكون هدفًا ساميًا وعبادة نؤجر عليها إذا كان خالصًا لوجه الله.

 

كما أن النضج يكمن في القدرة على الموازنة بين الأهداف الدنيوية والأخروية، وعدم جعل الدنيا أكبر همنا. فالإنسان المؤمن يتخذ من أهداف الدنيا وسيلة لتحقيق أهداف الآخرة.

 

وتكون مؤشرًا على قلق داخلي إذا كانت كثرة الأهداف نابعة من عدم الرضا بما قسم الله، أو من سعي محموم خلف متاع الدنيا الزائل، أو من مقارنة النفس بالآخرين، أو من محاولة سد فراغ روحي بالانشغال الدائم، فهنا يمكن أن تكون دليلًا على قلق داخلي لا ينتهي.

 

عندما يعتقد الإنسان أن السعادة في امتلاك المزيد، أو في تحقيق كل رغبة عابرة، فإنه يدخل في دوامة لا نهاية لها من السعي الذي لا يُشبع. يقول النبي ﷺ: «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب» [رواه البخاري].

 

إن السعادة الحقيقية التي تنبع من الطمأنينة والسكينة، لا تأتي من كثرة الأهداف بحد ذاتها، بل من جودة هذه الأهداف، ومن الإيمان بأن الرزق مقسوم، وأن السعادة الحقيقية في الرضا بما قسم الله.

 

الطمأنينة هي أساس السعادة، وهي التي تُنهي القلق الداخلي. يقول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]. فإذا كانت أهدافك متصلة بذكر الله وتقواه، فإنها ستجلب لك الطمأنينة والسعادة الحقيقية.

 

وألخص لك الفكرة في النقاط العملية التالية:

 

1- السعادة في الرضا والقناعة:

 

السعادة تتجلى في كل لحظة تشعر فيها بالقرب من الله، بالشكر على نِعَمه، بالصبر على ابتلائه. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «قد أفلح من أسلم ورُزق كفافًا وقنَّعه الله بما آتاه» [رواه مسلم].

 

2- السعي المشروع عبادة:

 

السعي لتحقيق الأهداف في الدنيا جزء من رسالة الإنسان في الأرض؛ لكن المهم أن يكون هذا السعي ضمن حدود الشرع، وأن تكون النية خالصة لله.

 

3- التوازن هو الأساس:

 

النضج الحقيقي يكمن في إيجاد التوازن بين أهدافك الدنيوية والأخروية. اعمل للدنيا كأنك تعيش أبدًا، واعمل للآخرة كأنك تموت غدًا.

 

4- جدد نيتك دائمًا:

 

في كل صباح، جدد نيتك في أن يكون يومك كله عبادة لله. حتى أبسط الأمور، مثل تناول الطعام أو النوم، يمكن أن تتحول إلى عبادة إذا صاحبتها نية صالحة. هذا يمنح حياتك معنى عميقًا ومتجددًا، ويبعد عنك شعور القلق والفراغ.

 

5- وفي العطاء سعادة:

 

إن العطاء يجلب سعادة لا مثيل لها. عندما تسعى لإسعاد الآخرين، لمد يد العون للمحتاج، فإنك تشعر بسعادة غامرة تفوق سعادة الحصول على الأشياء المادية.

 

وختامًا أخي العزيز، اجعل قلبك معلقًا بالله، وسعيك في هذه الدنيا وسيلة لنيل رضاه وجنته. عش كل لحظة بشكر وصبر، وكن على يقين بأن الله لا يضيع أجر المحسنين. واسأل الله دائمًا أن يمنحك السكينة والطمأنينة، وأن يرزقك سعادة لا تفنى ولا تزول. تابعنا بأخبارك، ولا تنسنا في دعائك.