<p>متي يجوز رفع أجهزة الإنعاش عن المريض ، وهل يعد ذلك من باب قتل النفس ؟</p>
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فيجوز رفع أجهزة الإنعاش عن المريض، في حالتين؛ الأولى أن تتعطل وظائف الدماغ نهائيًّا ويشهد بذلك فريق طبي متخصص، بحيث لا يمكن للدماغ العودة للعمل مرة أخرى ويبدأ في التحلل.
والثانية توقف القلب نهائيًّا، وهذه النقطة محل خلاف لدى الأطباء والفقهاء على حد سواء، لكن قرار المجمع الفقهي رجح القول بأن توقف القلب توقفًا تامًّا يعتبر من حالات الموت.
قرار مجمع الفقه:
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8- 13 صفر 1407هـ، الموافق 11-16 تشرين الأول (أكتوبر) 1986م،
بعد تداوله في سائر النواحي التي أثيرت حول: موضوع أجهزة الإنعاش، واستماعه إلى شرح مستفيض من الأطباء المختصين،
قرر ما يلي:
يعتبر شرعًا أن الشخص قد مات، وتترتب جميع الأحكام المقررة شرعًا للوفاة عند ذلك، إذا تبينت فيه إحدى العلامتين التاليتين:
1. إذا توقف قلبه وتنفسه توقفًا تامًّا، وحكم الأطباء بأن هذا التوقف لا رجعة فيه.
2. إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلًا نهائيًّا، وحكم الأطباء الاختصاصيون الخبراء بأن هذا التعطل لا رجعة فيه، وأخذ دماغه في التحلل.
وفي هذه الحالة يسوغ رفع أجهزة الإنعاش المركبة على الشخص، وإن كان بعض الأعضاء، كالقلب مثلًا، لا يزال يعمل آليًّا بفعل الأجهزة المركبة.
وجاء في فتوى مطولة للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ننقل منها:
إن نهاية الحياة تنتهي بنزع الروح، ولكن الروح أمر غيبي لا يعلم كنهها إلا الله تعالى؛ لذلك يكون الاعتماد على المظاهر التي تدل على انتهاء الحياة الطبيعية في الإنسان.
وهذه المظاهر مثل توقف القلب عن النبض، والرئة عن التنفس، والمخ عن النشاط، فإذا اجتمعت هذه الأمور فإن الحياة قد انتهت بالإجماع، ولكن الخلاف فيما إذا تحقق بعضها دون بعض، وهذا مبني على أن الحركة وحدها ليست دليلاً على الحياة كما هو الحال في حركات المذبوح، ومن البدهي أن تحديد كون الشخص حيًّا أو ميتًا يتعلق بكل حالة جملة من الأحكام من أهمها إذا كان ميتًا جواز رفع أجهزة الإنعاش، والانتفاع بأعضائه إن كان قد وصى، أو أذن به وليه.
لذلك يعتبر من الواجبات الأساسية عدم التسرع في إعلان الوفاة، حيث وقعت أخطاء كثيرة على مرّ التأريخ، حتى بيّن الأطباء الذين حكموا بموت شخص ما بسبب توقف القلب عن النبض وتوقف الدم عن الدوران، فإذا يفاجأ به (وهو عندما يغسل، أو يراد دفنه) يصحو فيرى مشيعيه يريدون دفنه وهو حي، ناهيك عمن يصحو داخل القبر دون مغيث، يقول الأستاذ الدكتور محمد علي البار: "ففي بريطانيا يتوفى كل عام نصف مليون... ويحكم الأطباء بموتهم نتيجة توقف القلب والدورة الدموية نهائيًّا عن الحركة، ورغم التقدم الطبي الهائل فإن هناك ما يقرب من أربعة آلاف شخص لا يدخلون في هذا التعريف كل عام".
وبالمقابل فإنه قد يتوقف قلب الشخص أو تنفسه بسبب إصابة الدماغ الذي به مركز التنفس، أو يتوقف القلب والتنفس معًا نتيجة لأي إصابة أخرى مثل الغرق أو الخنق، أو اضطراب في كهرباء القلب أو غيرها، وفي هذه الحالات فإن وسائل الإنعاش الحديثة كالمنفسة (Ventilator) وجهاز إيقاف ذبذبات القلب (Defibrillator) إذا استخدمت بمهارة قد تؤدي إلى إنعاش الشخص وإعادة التنفس ونبض القلب إذا أراد الله ذلك، وفي هذه الحالة يحدث أحد الأمور الآتية:
1. عودة الشخص إلى التنفس الطبيعي بدون الآلة، وعودة القلب إلى النبض، حيث يعتبر الشخص حيًّا، حتى ولو استمرت الغيبوبة عدة أعوام .
2. توقف القلب نهائيًّا على الرغم من وجود المنفسة، ففي هذه الحالة يعتبر الشخص ميتًا بلا جدال .
3. عدم إمكان إيقاف المنفسة إلا لدقائق، حيث يتبين أن التنفس لا يزال يعتمد عليها وأن الشخص لا يزال فاقدًا للوعي بصورة كاملة، ولكن القلب ينبض بالمنفسة.
ففي هذه الحالة خلاف، وهي الحالة المعقدة التي تحتاج إلى مواصفات أخرى، والتي يقع فيها أخطاء حتى على مستوى الأطباء حتى في أكثر الدول تقدمًا في الطب مثل بريطانيا، حيث قدم التلفزيون البريطاني BBC في برنامج بانوراما موضوع موت الدماغ في 13/10/1980م حلقة مثيرة تحدثت فيها فتاة أنها أصيبت بإغماء وتوقف تنفسها، ووضعت تحت أجهزة الإنعاش المعقدة، ثم أعلن الأطباء أن دماغها قد مات، وأن تنفسها قد توقف، وأن تخطيط المخ الكهربائي لا يشير إلى وجود أي ذبذبات كهربائية أو موجات آتية من دماغها، ولذلك أعلنوا موتها، ولكن أهلها رفضوا هذا التقرير، فجاءت مجموعة من الأطباء وواصلوا استخدام أجهزة الإنعاش... فتنفست الفتاة طبيعيًّا، ثم أفاقت من غيبوبتها، ثم ذهبت إلى محطة التلفاز لتروي قصتها هذه، وأنها كانت تسمع الأطباء وهم يتجادلون، ثم تسمعهم وهم يقررون وفاتها، وهي في غيبوبتها العميقة... وذكر البرنامج عدة حالات متشابهة.
يقول الدكتور حسان حتحوت: إن العلم الطبي قد اهتدى إلى أن العبرة في الموت ليست أساسًا بتوقف القلب والتنفس...، ولكنها تتوقف أولاً وأخيرًا على موت المخ الذي يستبين بتوقف النشاط الكهربائي للمخ تمامًا وهو ما يمكن قياسه بجهاز خاص، فإذا غاضت كهرباء المخ تمامًا، فهو مخ ميت ويكون باقي الجسم قد دخل في نطاق الموت إلى مرحلة اللاعودة، ومهما احتفظ الإنعاش الصناعي بالتنفس ودورة الدم فمحال أن يعود المريض إلى الحياة أبدًا.
ويترتب على ذلك أن الإصرار على الاستمرار في الإنعاش الصناعي ـ ما لم يكن موقتًا وهادفًا إلى استخلاص لعضو لزرعه في مريض ـ يعتبر إطالة لعملية الموت وليس حفاظًا على الحياة، بل هو إرهاق لأعصاب الأهل من غير طائل، وإسراف دون جدوى، وحرمان لمريض آخر من استعمال ذلك، ولا سيما أن وسائل الإنعاش الصناعي باهظة التكاليف شحيحة التعداد.
إن عملية الموت تمر بمستويات متسلسلة متعددة، فعند توقف القلب عن العمل نهائيًّا لأي سبب من الأسباب (وهو الغالب) فيتبعه فورًا فقدان الوعي وتوقف التنفس، وهما وظيفتان من وظائف المخ الذي لا يتحمل توقف دورته الدموية إلا لثوان معدودة، ولو أن خلاياه تظل حية لبضع دقائق إلا أنها تتوقف في أثنائها عن العمل، ويستتبع توقف الدورة الدموية ذلك حرمان جميع أعضاء وأنسجة الجسم من الغذاء اللازم لها لتوليد الطاقة وتشغيل الخلايا، وبناءً على هذه التغيرات الكيمياوية تموت الخلايا والأعضاء المكونة لجسم الإنسان خلال فترات تتفاوت فيها تلك الأعضاء والخلايا والعضلات والعظام والجلود.
والاشكالية –إذن- تكمن عندما تتدخل وسائل الإنعاش الصناعي، حيث يمكنها تشغيل القلب والتنفس مع أن قشرة المخ قد تلفت جزئيًّا أو كليًّا على حين تستمر أجزاء المخ الأخرى ومنها جذع المخ في العمل، وهذا التلف قد يكون نتيجة هبوط شديد في ضغط الدم لفترة طويلة أو إصابة شديد ولكن غير مميتة للمخ، وحينئذٍ يصبح الشخص فاقد الوعي بالكامل لكنه يتنفس تنفسًا اصطناعيًّا ويتغذى عن طريق أنبوب إلى المعدة بغذاء شبه سائل بنسب متوازنة وعناية مستمرة بالجلد، وتقليب الجسد، أو تغيير أوضاعه كل ساعتين تقريبًا، وبتصريف البول والبراز، وقد يستمر على هذه الحالة سنوات عديدة.
علامات وفاة المخ : فقد اتفقت معظم الدول المتقدمة على علامات لموت المخ، منها :
1- فقد الحس والحركة، والغيبوبة العميقة بحيث لا يستجيب المريض للتنبيه بالألم على أي صورة من الصور .
2- فشل التنفس التلقائي نهائيًّا، ويختبر ذلك بفصل المريض عن جهاز التنفس الصناعي لمدة دقيقتين وملاحظة أي محاولة ذاتية للتنفس.
3- اتساع حدقتي العينين وعدم استجابتهما للضوء.
4- اختفاء الموجات الكهربائية الصادرة عن المخ في تخطيط المخ.
5- هبوط الوظائف الحيوية للمخ وجذعه، وهذه يمكن الكشف عليها بأجهزة حديثة.
6- توقف الدورة الدموية للمخ، وهذه يمكن قياسها بطرق مباشرة أو غير مباشرة.
والله تعالى أعلى وأعلم