<p>أعمل في مركز إسلامي بإحدى الدول الأوروبية، وأواجه واقعًا صعبًا يتمثل في أن بعض المنتسبين إلى الإسلام –عن جهل أو هوى– يسيئون فهم النصوص القرآنية، ويستخرجون منها استدلالات فاسدة، تؤدي إلى انحرافات سلوكية أو فكرية خطيرة، من غلو أو تطرف أو تخاذل أو تبرير للباطل.</p> <p>كيف يمكننا كدعاة أن نتعامل مع هذه الظاهرة الخطيرة؟ وكيف نعيد للمسلمين علاقةً صحيحة بالنص القرآني تُثمر سلوكًا راشدًا، وفهمًا مستقيمًا، وتديُّنًا وسطيًّا رحيمًا؟ نرجو جوابًا شافيًا يجمع بين النقل والعقل، وبين ما قرره السلف الصالح وبين حاجات الواقع المعاصر في الغرب والشرق على السواء.</p>
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين... أما بعد:
فإن القرآن الكريم هو أعظم هدية من الله إلى البشرية، أنزله الله ليهدي الناس إلى الخير، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، قال تعالى: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (آل عمران: 138)، غير أن هذا النور الإلهي قد يُساء فهمه أو يُحرّف عن مواضعه، لا بسبب نقص في القرآن – حاشاه – ولكن بسبب الجهل أو الهوى أو التعصب أو سوء الفهم أو توظيفه لخدمة أغراض دنيوية أو حزبية.
أولًا: خطورة إساءة فهم القرآن
إنّ من أخطر ما يُبتلى به المسلم أن يستدل بالقرآن على ما يخالف مراد الله. وقد أنكر الله تعالى على من حرّف الكلم عن مواضعه، كما في قوله: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ (المائدة: 13)، بل إن النبي ﷺ قال عن الخوارج – الذين استدلوا بآيات الجهاد والحق والعدل – فقال عنهم: «يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية... » (متفق عليه). فالمشكلة لم تكن في القرآن، بل في الفهم السقيم، والتأويل الفاسد، والخلل في إدراك مقاصد الوحي.
ثانيًا: لماذا يخطئ البعض في فهم القرآن؟
1) الجهل باللغة العربية، خاصة لدى المسلمين في الغرب، فبسببه يقعون في فهمٍ حرفي أو سطحي للآيات.
2) الاعتماد على الترجمة دون الرجوع إلى التفسير الصحيح.
3) أخذ الآية بدون سياقها، وقطعها عن أسباب النزول أو عن آيات أخرى مكملة لها.
4) الوقوع تحت تأثير أفكار متطرفة أو شبهات إعلامية أو حملات تغريبية.
5) غياب المرجعية العلمية المؤصلة؛ وهو ما يفتح المجال لكل من هب ودب أن "يفسر" القرآن برأيه.
ثالثًا: كيف نتعامل كدعاة مع من يسيء فهم القرآن؟
1) التعاطف أولًا لا التصادم: ابدأ بلغة الرحمة، وتذكّر أن الجهل لا يُواجه بالعنف، بل بالرفق، كما قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ... ﴾ (النحل: 125).
2) التوجيه للمنهج الصحيح في فهم القرآن؛ فالقرآن يُفهم أولًا بضوء تفسير النبي صلى الله عليه وسلم، ثم فهم الصحابة الكرام، كما أنّ القرآن له سياق وسبب نزول، وفهم معانيه يحتاج إلى أدوات علمية ومقاصديَّة، فيجب الجمع بين الآيات وعدم اجتزاء النصوص، ويُرجع في التفسير إلى العلماء الثقات، لا إلى من لم يُؤهل.
3) ضرب الأمثلة المقنعة: فيمكن أن تقدّم نماذج ممن ضلّوا بسوء الفهم – كمن قتلوا الأبرياء باسم الجهاد، أو من كفّروا المجتمعات – ثم بيّن كيف فهم السلف الصالح الآيات بشكل متوازن متكامل.
4) فتح حلقات حوارية تعليمية: خاصة للمسلمين الجدد أو الشباب في الغرب، لتعليمهم أصول فهم القرآن، وتفكيك الشبهات المنتشرة، وتقوية علاقتهم بالقرآن بصورة صحيحة.
5) التركيز على مقاصد القرآن الكلية، كالرحمة، العدل، الإحسان، التيسير، رفع الحرج، إقامة المصلحة ودفع المفسدة، وهكذا، فهذه المقاصد تُسعفنا في ضبط المعاني وتوجيه النصوص.
6) الاستفادة من التكنولوجيا، بحيث يمكنك عرض تفسيرات مرئية وسمعية معاصرة من مصادر موثوقة (كالتفاسير المعتمدة – مثل تفسير السعدي أو ابن كثير – بصيغة مبسطة بلغة العصر)، مع استخدام وسائل التواصل لنشر تصحيحات مهذبة للشبهات الشائعة.
رابعًا وأخيرًا: وصايا للدعاة إلى الله تعالى
أيها الداعية الكريم:
* لا تُكثر اللوم على الناس قبل أن تَفهَم واقعهم.
* اصنع جسرًا بينك وبينهم لا جدارًا.
* كن قدوة في احترام النص وتوقيره، وفي بيان شموليته ووسطيته.
* لا تكتفِ بالرد على الشبهة، بل علّم أصول الفهم الصحيح.
* استثمر كل فرصة لتذكير الناس بأن القرآن كتاب رحمة وهداية لا فوضى وتشدد.
واعلم أخي الكريم بأنَّ أعظم ما نُهدي به الناس اليوم هو الفهم الصحيح للقرآن الكريم، فهو مفتاح الهداية، ومصدر القوة والاعتدال، وضمانة النجاة.
وكلما أصلحنا العلاقة بين الناس والقرآن، في الفهم والعمل، رأينا أثر ذلك في السلوك، في الأخلاق، في العلاقة مع الآخر، وفي بناء إنسان مسلم راشد في الغرب والشرق على السواء.
وأسأل الله تعالى أن يحفظنا وإياكم بحفظه.