<p>أنا راجل في أوائل الأربعينات، ربنا كرّمني من كام سنة وطلعت عمرة لأول مرة في حياتي، والسنة دي إن شاء الله ناوي أطلع حج<span dir="LTR">.</span> بس بصراحة عندي خوف جوايا، خايف يحصل معايا زي ما حصل في العمرة<span dir="LTR">.</span> ساعتها كنت متعلّق بالرحلة جدًا، وكنت شايفها فرصة كبيرة للتغيير والتوبة، وكنت مستني لحظات خشوع تبكيني وتلمس قلبي<span dir="LTR">.</span></p> <p>لكن لما وصلت هناك، ولما شُفت الكعبة لأول مرة ما حسّيتش بالمشاعر اللي كنت متوقعها، ما بكيتش، رغم إني كنت بدعي وبحاول أعيش اللحظة، وكنت شايف ناس حواليّا بيعيطوا بحرقة وانكسار، وأنا كنت مستغرب من نفسي<span dir="LTR">!</span></p> <p>الموضوع خلاني قلقان: هو قلبي قاسي؟ هو إيماني ضعيف؟ واللا أنا مقصر؟ واللا مش مخلص كفاية؟</p> <p>ودلوقتي قبل الحج، نفس المشاعر دي راجعة لي تاني.</p> <p>أنا نفسي أعيش الحج بصدق، أحس إني واقف بين إيدين ربنا، أحس بروحانياته وتغييره لقلبي ونفسي، مش عايز أرجع زي ما أنا، ولا أطلع الرحلة دي من غير فايدة على ديني.</p> <p><span dir="RTL">فهل اللي حصل معايا في العمرة كان طبيعي؟ ولا معناه إني فعلاً عندي مشكلة؟</span><br /> وخوفي من تكراره في الحج... ده خوف في محله؟</p>
مرحبًا بك أيها الأخ الكريم، وأشكرك جزيل الشكر على رسالتك، وأسأل الله أن يبارك لك في عمرك، ويشرح صدرك، وييسّر لك الفريضة، ويجعل حجك مبرورًا وسعيك مشكورًا وذنبك مغفورًا، وأن يرزقك فيه من لحظات القرب والأنس بالله ما يطهِّر روحك ويملأ فؤادك نورًا وطمأنينة، وبعد...
فحين يُقبل المرء على الحج أو العمرة، يكون في قلبه رجاءٌ عظيم، وشوقٌ دفين للَّحظة التي تتفتح فيها الروح وتبكي، لحظة الانكسار الصادق التي يظن كثيرون أنها العلامة الحاسمة على قبول التوبة، أو خشوع القلب، أو حتى نجاح هذه الرحلة الروحية، ولكن دعني أناقش معك تساؤلاتك في السطور التالية، لنصل إلى وجه الحق الذي يجمع شتات روحك ويريح قلبك ويشرح صدرك.
هل ما حدث معك في العمرة طبيعي؟
نعم يا أخي، طبيعي جدًّا، ويحدث مع كثير من الصالحين، ومنهم العلماء والدعاة والعُبَّاد. لأننا بوصفنا بشرًا لسنا مُبرمجين على مشاعر معينة في أوقات معينة، ولا نتحكم دومًا في انفعالاتنا، خصوصًا حين نعلِّق آمالًا ضخمة وتوقعات كبيرة على تجربة ما.
قد يدخل المرء بيت الله لأول مرة، وتفيض دموعه بلا إرادة. وقد يدخل آخر، ويمكث في رحابه أيامًا، دون أن تذرف له دمعة، رغم صدق نيته، وصفاء سريرته. فالدموع ليست المعيار، والخشوع ليس له مظهر واحد، بل مظاهر متعددة، ومحله القلب لا العين.
وقد كان النبي ﷺ يخبرنا أن القلب يتقلب؛ ففي الحديث الشريف: «إن قلوب بني آدم كلَّها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء» [رواه مسلم]، ولم يكن الصحابة ولا النبي ﷺ نفسه يبكون في كل دعاء، ولا في كل قيام ليل، ولا في كل لحظة عبادة.
لذا، في الخشوع، لا تراقب عينيك، بل راقب قلبك؛ فالخوف الحقيقي حين يُغلَق القلب والعياذ بالله، لا حين تمتنع الدموع.
فما حدث معك لا يدل على قسوة قلب، ولا على ضعف إيمان، بل يدل على توقّعٍ بشريٍّ، وشوقٍ مشروع، ربما اصطدم بواقع مغاير للمأمول.
هل عدم البكاء يعني عدم الإخلاص؟
كلا والله، بل في سؤالك وحده دليل على صدقك؛ لأن الصدق هو في إرادة القرب من الله، ولو لم تُظهِره الجوارح. فالبكاء وحده ليس هو علامة الخشوع، فقد يكون البكاء طبعيًّا عاديًّا لا روح فيه، وقد يكون القلب خاشعًا ساكنًا لله مطمئنًّا دون دموع.
فالخشوع مراتب: قد يكون بكاءً، وقد يكون سكونًا وخشيةً في القلب، وقد يكون حرارةً داخلية لا تُرى، لكن الله يراها. قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [المؤمنون: 1 و2]، فلم يقل: «يبكون» بل قال: «خاشعون»، والخشوع أعمُّ وأعمق من مجرد دمعة.
ثم تأمل دعاء النبي ﷺ في الحديث: «اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا» [رواه مسلم]. فالغاية: تزكية النفس، لا استدرار الدموع.
فلا أعتقد -يقينًا- أن ما حدث يدل على أن قلبك قاسٍ أو أن إيمانك ضعيف! فكل إنسان له طريقته الخاصة في التعبير عن مشاعره، وقد يكون لديك نوع من الخشوع الذي لا يظهر بالدموع، بل قد يظهر في السكون والسكينة.
وقد تكون هناك عدة أسباب وراء عدم شعورك بالمشاعر التي كنت تتوقعها، منها:
1- لتوقعات العالية:
فأحيانًا عندما نضع توقعات عالية جدًّا لأنفسنا أو لغيرنا، قد نشعر بخيبة أمل عندما لا تتحقق. فحاول أن تترك الأمور تسير كما هي، وكن منفتحًا على التجربة تمام الانفتاح دون قيد من توقع أو افتعال.
2- الضغط النفسي:
قد يكون الضغط النفسي أو القلق حول التجربة والرحلة نفسها وظروفها، هو ما يمنعك من الشعور بالخشوع. حاول أن تركز على اللحظة الحالية وتبتعد عن التفكير فيما يجب أن تشعر به.
3- التجربة الشخصية:
كل شخص لديه تجربة فريدة، وقد لا تتطابق تجربتك مع تجارب الآخرين، حتى في الناحية الإيمانية، فلا تقارن نفسك بالآخرين، بل استمتع بتجربتك الخاصة.
هل الخوف من تكرار التجربة بالحج في محلِّه؟
هو في محله من حيث حرصك وخشيتك؛ لكن ليس في محله من حيث القلق السلبي. فاعلم أن القبول لا يُقاس بالشعور فقط. فقد تؤدي حجك وأنت لا تبكي؛ لكنك في ميزان الله مقبول، مغفور لك، مرحوم.
وقد قال رسول الله ﷺ: «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» [رواه البخاري]. ولم يربط «البرّ» بالبكاء، بل بالنية الصادقة، والامتثال، وطيب النفقة، وحسن الخلق، وعدم الرفث والفسوق، كما ورد في آيات وأحاديث عدة.
فلا تقلق من تكرار ما حدث، بل كن مطمئنًا بأن الله سيجزيك على سعيك، ولو لم تشعر بكل ما ترجوه.
لكن -أخي الحبيب- لا بأس في أن تهيِّئ قلبك، وتُنمِّي فيه الاستعداد الإيماني والروحي،
ويمكن ذلك عن طريق:
1- أكثر من الدعاء: «اللهم ارزقني قلبًا خاشعًا، ونفسًا مطمئنة».
2- أخلص نيتك لله، وذكِّر نفسك دائمًا بأنك ذاهب لتلبية نداء الله، وهدفك طاعته ورضاه سبحانه، تبتغي العفو والمغفرة.
3- اقرأ في الكتب والموضوعات التي تتحدث عن الحج من منطلق إيماني وتربوي وروحي.
4- تأمل في معاني ومقاصد الحج ومناسكه المختلفة وأنت تؤديها.
5- تقبَّل مشاعرك كما هي، فلا تضغط على نفسك لتشعر بشيء معين، ولا تتكلف ذلك، وكن صادقًا مع نفسك. فإذا شعرت بالخشوع، فاستمتع به واحمد الله، وإذا لم تشعر به فلا تحزن، بل استمر في الاجتهاد حتى تصل إليه.
6- تخير صحبة صالحة، تشاركك النية نفسها والهدف نفسه في الحج، فتلك الصحبة تعزز من روحانية الرحلة وتساعدك على التركيز على العبادة.
7- حاول أن تتأمل في النعم التي أنعم الله بها عليك، وكن ممتنًّا له عز وجل.
8- القرآن القرآن، والذِّكر الذِّكر، بتأمل وتدبر، فهما يفعلان في القلب الكثير.
9- اخلط مشاعر الحج بتذكر تذكُّر ذنوبك، لا لتقنط، بل لتنكسر بين يدي ربك.
وختامًا أخي الحبيب، فإن القلوب لا تسير كلها بالوتيرة نفسها، ولا في الاتجاه نفسه، لكن المهم أن تسير. المهم ألَّا تبرح الطريق، ولا تستسلم إن تعثرت. وأبشر بعون الله: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ (العنكبوت: 69)، وأنت مجاهدٌ في نيتك، في خوفك، في شوقك. فلا تجعل الشيطان يُلبِّس عليك، فيحوِّل القلق الشريف إلى وسواس مُذِل. بل استبشر، وأحسن الظن بالله، فالله لا يخيِّب عبدًا أقبل عليه.
فأحسن الظن بالله، وأكثر الرجاء، واستودع الله قلبك، وتوكل عليه. فإن لم تبكِ عيناك، فليبكِ قلبك، وإن لم تبكِ عند الطواف فربما تبكي في عرفة، أو في منى، أو عند الجمرات... وربما لا تبكي، لكنك ترجع بقلب جديد لا تراه أنت، لكن يراه الله ويزكِّيه.
أسأل الله لك حجًا مقبولًا، ومقامًا مباركًا، وروحًا طاهرة، وقلبًا يفيض بحب الله، واستجابة لكل دعاء دعوت به في سرك وعلنك. ولا تنسنا من دعائك.