<p>أنا امرأة أعيش حاليًّا فترةً فيها كثير من التقلبات والصعوبات، سواء على المستوى الشخصي أو العائلي. أحيانًا أتعرض لمواقف تؤلمني بشدة، سواء في العلاقات أو في الخيبات المتكررة، وأجد نفسي أتساءل في لحظات التعب والضيق: "لماذا قدّر الله لي هذا؟".</p> <p>أعلم في قرارة نفسي أن الله حكيم لا يقدّر شيئًا عبثًا، وأن وراء كل قضاء حكمة ورحمة، لكني في الواقع أجد صعوبة كبيرة في تقبّل بعض الأقدار، خاصة تلك التي تتكرر فيها الآلام أو التي لا أفهم مغزاها.</p> <p>أشعر أحيانًا بأني أقاوم داخليًا بدل أن أستسلم بطمأنينة، وأخشى أن يكون هذا نوعًا من الاعتراض القلبي، رغم أني لا أنطق بشيء يغضب الله.</p> <p>أريد أن أصل إلى مرحلة "الرضا الحقيقي"، لا مجرد الصبر أو التحمل، بل أن أعيش القناعة والسكينة واليقين بأن ما أصابني هو الخير، حتى لو لم أفهمه الآن.</p> <p>كيف يمكنني أن أربي نفسي على هذا المعنى العظيم؟</p> <p>وهل هناك خطوات عملية أو عبادات معينة تساعدني على بناء هذا الرضا في قلبي؟</p> <p><span dir="RTL">جزاكم الله خيرًا وبارك في علمكم</span>.</p>
مرحبًا بكِ أختنا الكريمة، ونشكركِ على تواصلكِ معنا، وعلى هذه الثقة التي نعدّها أمانةً في أعناقنا، ونسأل الله العظيم أن يجعل لكِ من كل ضيق مخرجًا، ومن كل همٍّ فرجًا، وأن يملأ قلبكِ يقينًا ونورًا ورضًا، ويجعل لكِ من القبول عنده وعند خلقه ما يشرح الصدر ويُسعد الروح، وبعد...
فإن الإيمان برحمة الله وحكمته لا يعني أبدًا أن نُطفئ مشاعرنا أو نكبت ألمنا، بل يعني أن نمرَّ عبر النار ونحن نعلم أن يد الله معنا، وأن الحكمة كامنة في هذا الألم، حتى لو لم نرها الآن.
إن لله –تعالى- في كل ابتلاء حكمة، وفي كل دمعة رسالة، وفي كل عثرةٍ طريقًا جديدًا للارتقاء. تأملي قوله تعالى: ﴿وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا۟ شَيْـًۭٔا وَهُوَ خَيْرٌۭ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا۟ شَيْـًۭٔا وَهُوَ شَرٌّۭ لَّكُمْ ۗ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216].
إن كل ما تمرين به، حتى الذي لا تفهمينه، هو جزء من تقدير إلهي دقيق، تُرسم به ملامح روحك، وتُصفَّى به نفسك، وتُجهَّزين به لمقام أعلى، أو تُحفَظين به من شرٍّ أعظم لا ترينه.
بين الألم واعتراض القلب
سؤالكِ عن الخوف من اعتراض قلبك يُظهر دقة مراقبتكِ لنفسك، وهذا فضل عظيم.
فاعلمي –أختي الفاضلة- أن الهمَّ، والحزن، والتألم... ليست اعتراضًا؛ بل هي بشرية الفطرة، وقد بكى الأنبياء وتألموا، وهم صفوة الخلق!
تأملي موقف يعقوب عليه السلام، حين قال: ﴿إِنَّمَاۤ أَشْكُو بَثِّى وَحُزْنِىٓ إِلَى ٱللَّهِ﴾ [يوسف: 86]، ولم يكن في شكواه أدنى اعتراض، بل كانت شكوى المحبِّ الواثق الرحيم إلى ربه.
بل النبي ﷺ نفسه، رغم أنه أعلم الناس بالله، قال عند موت ولده إبراهيم: "إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ" [رواه البخاري].
فالاعتراض هو أن يعترض القلب على ربّه، ويشعر بأن ما قدّره الله كان ظلمًا أو نقصًا في الحكمة، أما أن تتألمي وتتساءلي وتحاولي فهم الحكمة، فهذا سعي المحبين، لا اعتراض المعترضين.
كيف ننتقل من الصبر إلى الرضا؟
الرضا لا يأتي دفعةً واحدة، بل يُربَّى كغرسٍ صغير، يُسقى كل يوم بذكرٍ، وتدبرٍ، واستسلام، حتى يورق ويثمر، وهذه خطوات عملية تساعدك بإذن الله:
1- الصحبة اليومية للقرآن:
القرآن هو خطاب الله الخاص لقلبك؛ فاجعلي لك وردًا يوميًّا منه، وركزي على التدبر، خصوصًا في سور مثل: الشورى، ويوسف، والكهف، وطه، ومريم، فإنها سور تحمل رسائل لطيفة لأهل البلاء.
قال بعض السلف في قول الله عز وجل: ﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍۢ إِلَّا بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۗ وَمَن يُؤْمِنۢ بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُۥ ۚ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ﴾ [التغابن: 11]: "هو الرجل تُصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلِّم".
2- الدعاء والتضرع بتسليم القلب:
سَلِي الله بصدق أن يرزقكِ الرضا، قولي:
- اللهم اجعلني راضية بقضائك، صابرة على بلائك، شاكرة لنعمائك.
- اللهم رضِّني بما قسمتَ لي، واجعل غِناي في قلبي، وبصِّرني بحكمتك في أقدارك.
- اللهم إني لا أعلم أين الخير، ولكنك تعلم، ولا أقدر على اختيار ما يصلحني، ولكنك تقدر، فاختر لي ما تُحب، ورضِّني به حتى أحبه، ولا تجعل في قلبي سخطًا على شيء كتبته لي.
- اللهم ارزقني قلبًا راضيًا، يرى رحمتك في البلاء، ويدرك حكمتك في التأخير، ويطمئن إلى وعدك، حتى لا يتزلزل في الشدة، ولا يجزع عند الألم.
- اللهم احفظ قلبي عند كل تقلب، وذكِّرني بلطفك في كل لحظة ضعف، وسكِّن روحي إذا اختلطت عليَّ الأسباب، وارزقني صدق التسليم إذا غابت عني المعاني.
- اللهم إني أَمَتك الضعيفة، لا أقوى على الحياة إلا بك، ولا على الصبر إلا بتوفيقك، فخذ بيدي حين أضعف، ولا تكلني إلى نفسي لحظة، ولا تجعلني أضيع عنك في زحمة الهموم.
- اللهم اجعل في قلبي يقينًا لا يتبدد، وسكينةً لا تزول، ورضا يُضيء عتمة النفس، حتى أراك في كل شيء، وأطمئن إلى أنك لا تُدبِّر لي إلا خيرًا، وإن خفي عليَّ.
- يا ألطفَ بي من نفسي، ويا أحنَّ عليَّ من أُمِّي، أعوذ بك من القلق على ما مضى، والخوف مما سيأتي، واجعل همِّي رضاك، وسرَّ راحتي في قربك.
أختي الفاضلة، لا تشغلي نفسك بحفظ هذه الأدعية، بل افهمي معانيها، وقوليها بقلبك قبل لسانك. ويمكنك أن تُدوّني هذه الأدعية بخط يدكِ في دفتر خاص، وتُرفقي معها آيات وأحاديث تفتح لكِ أبواب الرضا، وستجدين أن هذه العادة تثمر فيك نورًا داخليًّا يزيد مع الوقت.
3- التفكر في أسماء الله وصفاته:
حين تشتد بكِ الحال، تأملي في أسمائه: اللطيف– الحكيم– الرحيم– الوكيل...
واستحضري أن من قدَّر عليك ما قدَّر هو من قال على لسان نبيه المبتلى: ﴿إِنَّ رَبِّى لَطِيفٌۭ لِّمَا يَشَآءُ﴾ [يوسف: 100]، فمهما اشتد البلاء، فلطف الله أعظم.
4- عبادات السر:
اجعلي لكِ عبادات لا يعلمها أحد إلا الله: صدقة خفية، قيامًا في الليل، عملا خيريا تطوعيا... إلخ، ففي الخلوات تُربَّى القلوب على الإخلاص والسكينة، ويُشرق فيها نور الرضا.
وختامًا أختي الغالية، إن الطريق إلى الرضا ليس سهلًا، ولكنه أجمل ما يُمكن أن يُعاش، فهو مقام المقرَّبين، ومرتبة الصدِّيقين، والنفس لا تبلغه إلا بعد جهاد طويل وتربية دقيقة، وكل خطوة فيه تقربك من الله، وتُزهر في قلبك نورًا وسكينةً.
اذكري دائمًا قول النبي ﷺ: "عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاء صبر، فكان خيرًا له" [رواه مسلم].. وكوني على يقين بأن خلف هذه الأيام تمهيدًا لأجمل عطايا الله.
رضي الله عنكِ وأرضاك، وشرح صدركِ، وألان قلبكِ، وبلَّغكِ مقام الرضا الجميل، وتابعينا بأخبارك.