<p>السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أحاطت بي الأمراض النفسية بالجملة ولم أعد أطيق نفسي ولا أحدًا من البشر باستثناء ما شذ وندر، فأضحت علاقتي مع والدي (الاثنين) أبرد من الجليد تقتصر على التحية كلما مررت عليهما دون الجلوس معهما أو تبادل أطراف الحديث معهما، وكذلك أضحيت قاطعًا لرحمي تقريباً باستثناء أخوين اثنين أو أخوالي ألقي عليهم التحية وأتبادل معهم بعض الكلمات إذا التقيت معهم في الخارج.</p> <p>أما موضوع زيارة خالاتي وشقيقاتي وجدتي وعمتي فقد انقطعت عن ذلك منذ سنين عديدة نتيجة السبب المتقدم بيانه، وأنا أتمنى الموت في كل آن وحين تقريبا. هل أعتبر معذورا شرعًا في هذه المصائب بالجملة التي أنا فيها ولم أستطع التغلب على عقدي منها؟ بارك الله فيكم.</p>
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يشفيك ويعافيك شفاء لا يغادر سقمًا، ونوصيك بكثرة الذكر والدعاء أن يفرج عنك همك وكربك، وعليك أيضًا بطلب المشورة من الطبيب المختص، وهذا ليس عيبًا، بل أمرنا النبي ﷺ بذلك، روى ابن ماجة بسنده عن رسول الله ﷺ شهدت الأعراب يسألون النبي ﷺ هل علينا جناح أن لا نتداوى؟ قال: «تداووا عباد الله فإن الله سبحانه لم يضع داء إلا وضع معه شفاء إلا الهرم». قالوا يا رسول الله: ما خير ما أعطي العبد؟ قال: «خلق حسن».
ولا شك -أخي الكريم- أنك محاسب على قطيعة الرحم، وعليك بالسعي فإن لم توفق في العلاج فاصبر، وستؤجر إن شاء الله ما دمت قد أخذت بكل الأسباب المتاحة لديك للخروج من هذه العزلة.
يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي –رحمه الله– تحت عنوان: دواء الاكتئاب من الصيدلية المحمدية:
أما دواؤك، فهو موجود -بتوفيق الله- في الصيدلية القرآنية النبوية، وتتلخص هذه الوصفة الدوائية أو "الروشتة" الدينية، في الآتي:
الاعتصام بالله تعالى واللجوء إليه، والتحصن بحصنه الحصين، والأمل في فضله، والرجاء في رحمته، هذا هو الأصل؛ أن يضع الإنسان نفسه في يد مولاه عز وجل، وأن يؤمن بأنه لن يضيعه، ولن يتخلى عنه، وأنه أبر به من نفسه، وأرحم به من أمه وأبيه، ولا ييأس من روحه أبدًا، ولا يقنط من رحمته أبدًا، {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (يوسف:87)، {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} (الحجر: 56).
إن الله تعالى لا يستعصي عليه مرض، ولا مشكلة مادية ولا معنوية، فكم من مريض شفاه، وكم من فقير أغناه، وكم من سائل أعطاه، وكم من مشرف على الهلاك نجاه، وكم من ضال هداه، وكم من مشرد آواه، وكم من ضعيف قواه، وكم من مبتلى عافاه، وكم من.. وكم!! فهو سبحانه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
ألم تر كيف كشف غمة يعقوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وجمع بينه وبين أولاده، حين قال: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} (يوسف: 86)، {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (يوسف: 83)، ألم تر كيف كشف الضر عن أيوب، بعد مرض طويل؟! {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} (الأنبياء: 83-84).
ألم تر كيف استجاب ليونس (ذي النون) بعد أن التقمه الحوت، ونادى في الظلمات: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت: {أَن لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} (الأنبياء: 87-88)، ألم تر كيف استجاب لزكريا؟! {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (الأنبياء: 89-90).
ألم تر كيف استجاب لإبراهيم دون أن يدعوه، بل قال حين ألقي في النار: "حسبي الله ونعم الوكيل" هكذا كان ذكر إبراهيم، فقال الله للنار {كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (الأنبياء: 69).
ألم تر كيف نصر الله سيدنا محمدًا عليه الصلاة والسلام يوم أخرجه الذين كفروا من بلده أحب بلاد الله إلى الله، وأحب بلاد الله إليه: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 40).
هذه الثقة الوطيدة بالله هي بداية الحل، وهي المشعل الذي يضيء الطريق، أن يحط المرء أعماله وأفعاله على باب الله، ويتمرغ على عتبته، ولا يبرح هذا الباب أبدًا، فهو سبحانه لا يرد من طرق بابه، وخصوصًا إذا دعاه دعاء المضطر الذي لا ملجأ له من الله إلا إليه، ولا جناب يلوذ به إلا جنابه، فهو يدعو بحرقة وحرارة واضطرار وافتقار.
والله تعالى أعلى وأعلم