<p>السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أكتب إليكم وأنا أعيش في دوامة من المشاعر المتضاربة، فكلما اشتد بي الحزن أو الفراغ وجدت نفسي أتجه إلى المتاجر لأشتري ما لا أحتاج<span dir="LTR">.</span></p> <p>أبحث عن شيء يملأ ذلك الفراغ الذي لا أعرف كيف أعبئه، لكنني ما إن أعود إلى البيت حتى أرمي مشترياتي دون أن أفتحها أحيانًا.</p> <p>ثم تبدأ رحلة العذاب، عذاب الضمير على ما أنفقته بلا فائدة، وخوفي من عقاب الله على إسرافي، وتذكّر الفقراء الذين يبحثون عن قوت يومهم. بيتي يمتلئ بالفوضى وأنا أعجز حتى عن ترتيبه، وكأني أعاقب نفسي بهذه الفوضى<span dir="LTR">.</span></p> <p>أحتاج إلى إجابات تساعدني على فهم ما يحدث: هل ما أعانيه هو إدمان تسوق أم هروب من مواجهة مشاعري؟ ما رأي الشرع في هذا السلوك وهل هو من الإسراف المحرم؟ كيف يمكنني التوقف عن هذه العادة دون أن أزيد من لومي لذاتي؟</p> <p>ما هي البدائل الصحية التي يمكنني اللجوء إليها عندما يغلبني الحزن؟ هل هناك خطوات بسيطة يمكنني اتباعها مع حالتي النفسية الحالية؟ لا أريد لومًا يثقل كاهلي، بل أبحث عن يد تمتد لتنقذني من الغرق. وجزاكم الله خيرًا<span dir="LTR">.</span></p>
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،
أهلًا بك أخي الكريم، أرجو أن تطمئن، فأنت لست وحدك، وما تشعر به له تفسير نفسي عميق، وله في الوقت ذاته حلول واقعية رحيمة تراعي حالتك دون قسوة أو لوم إن شاء الله تعالى.
أولًا: إن ما تصفه يُشخَّص في علم النفس بـ"التسوق القهري" (Compulsive Buying Disorder):
وهو نمط سلوكي يتّسم بالرغبة الملحّة للشراء دون حاجة حقيقية، ويأتي غالبًا كردّ فعل لا شعوري لمشاعر داخلية مضطربة مثل الحزن، الفراغ العاطفي، أو القلق. وهو في جوهره ليس إدمانًا ماديًّا بل محاولة لتعويض احتياج نفسي غير مشبع.
السلوك هنا ليس المشكلة في حد ذاته، بل هو عرض لمشكلة أعمق وهي: "الفراغ الوجودي" (Existential Void)، فحين يُهمَل هذا الجانب يبدأ الإنسان بالبحث عن بدائل مؤقتة تملأ هذا الفراغ: الشراء، الأكل بشراهة، أو حتى الانشغال المفرط. لكن لأنها لا تملأ الفراغ الحقيقي، تعود الدائرة من جديد.
ثانيًا: بالنسبة لسؤالك عن رأي الشرع في هذا السلوك:
الشرع الحنيف يدعونا دائمًا إلى الاعتدال في كل الأمور. قال الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.
والإسراف هنا لا يُقصد به فقط الإفراط في الماديات، بل أيضًا إسراف المشاعر في غير موضعها، وإجهاد النفس فيما لا ينفعها.
ومع ذلك، فإن ديننا لا يلوم الإنسان إذا أخطأ عن جهل أو ضعف، بل يفتح له باب العودة دائمًا برحمة. فالله عز وجل قال: {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}، فلا تجلد ذاتك؛ فالله لا يريد لنا العذاب، بل يريد لنا النور والخير والتوازن.
ثالثًا: كيف تتعامل مع هذا السلوك؟
* إليك خطوات عملية تراعي حالتك النفسية وتساعدك تدريجيًّا دون قسوة:
1- انتبه إلى المشاعر المحفِّزة:
اسأل نفسك قبل الشراء: "ما الشعور الذي أحاول التخفيف منه الآن؟ هل أنا حزين؟ هل أشعر بالوحدة؟" هذه التقنية تُعرف بـ Emotional Awareness أو الوعي العاطفي.. وهنا الشخص يُحٓمل نفسه مسؤولية تحديد اتجاه مشاعره اللحظية وبالتالي قرار الشراء من عدمه.
2- اكتب بديلًا لكل مشاعر محفّزة:
جهّز قائمة ببدائل صحية، مثل:
- كتابة مشاعرك في دفتر خاص.
- المشي لمدة 15 دقيقة.
- ترتيب ركن صغير من المنزل.
(مع إلزام نفسك بتنفيذها).
3- اتبع نظام "التأجيل الواعي" (Conscious Delay):
حين تشعر برغبة مفاجئة ومُلحة للشراء، أجّل القرار لـ24 ساعة، واكتب خلال هذه الفترة ما الذي دفعك لهذا الشعور. ستجد أنك كثيرًا ما تصرف النظر عن الشراء بعدها.
أما وإن وجدت نفسك تحتاج بالفعل للشراء (وهذا أمر لا غناء عنه لكل شخص)، كاحتياجاتك الشخصية أو احتياجات منزلك أو عملك، فانتظر لحين أن تستجمع كل ما ينقصك، ولا بد من كتابة حاجاتك الضرورية جدًّا، وتأخذ معك الورقة التى سجلت بها ما تحتاجه، وتشتري ما يلزمك، وتلتزم بما كتبته فقط، وقبل نزولك حدد قيمة المشتريات التقريبية ماديًّا وخذ معك من المال ما يكفي هذا الطلبات فقط، مع زيادة بسيطة في المبلغ المالي احتياطيًّا.
فتكون بذلك أرضيت رغبتك في الشراء، ووفرت أيضًا ما تحتاجه من ضروريات المعيشة فقط.
4- اجعل من الترتيب وسيلة شفاء وليس عبئًا:
فلا تنظر إلى فوضى المنزل كعقوبة، بل كفرصة للشفاء التدريجي. فقم بتّرتيب كل ركن وكأنك تعيد ترتيب روحك. فترتيب المحيط الخارجي يساعد على تخفيف الفوضى الداخلية.. ويمكنك سماع شيء تحبه أثناء القيام بترتيب مكانك، القرآن الكربم، دروس دينية تفضلها، أو حتى مسلسل هادف...
٥- أحط نفسك بجماليات المعنى لا المشتريات:
زيّن بيتك ببطاقات تحفيزية تحمل آيات قرآنية أو جملًا إيجابية مثل: "أنا أستحق السلام الداخلي"، "الشراء لن يملأ فراغي، الله فقط من يفعل ذلك".
6- مارس الامتنان (Gratitude Practice):
اكتب كل ليلة 3 نعم أنعم الله بها عليك.
فالامتنان يُعيدك للواقع ويقلل من السعي القهري نحو الشراء، كما ورد في قوله تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}.
7- أما وإن اتبعت هذه النصائح لعدة أشهر دون جدوى.. فأنصحك بزيارة مرشد نفسي أسري مختص بـ العلاج السلوكي المعرفي (CBT)، حيث ثبتت فعاليته مع مثل هذه الحالات. وابدأ دون خجل، فأنت تستحق أن تعش بسلام ووعي ورضا.
* همسة أخيرة لأخي الكريم:
أخي الفاضل، كلما انتابك ذلك الشعور، فتذكر قول سيدنا الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- هذه حينما رأى جابر بن عبد الله يحمل لحمًا في يده وقال: ما هذا يا جابر، فقال له: اشتهيت لحمًا فاشتريته، فقال له عمر: "أوكلما اشتهيت اشتريت؟!"؛ فهذب نفسك واكبح جماحها بهذ السؤال دائما.
فأنت لست ضعيفًا، بل إنسان مرهف تحاول أن تواكب الحياة رغم ثقلها، وهذا في حد ذاته شجاعة. لست مذنبًا، بل أنت في حاجة للاحتواء والمرافقة، لا للحساب والجلد.
توقف عن مقارنة نفسك بالآخرين؛ فالشفاء لا يسير بسرعة واحدة للجميع، بل كلٌ له وقته.
وأخيرًا.. أنا هنا دائمًا أخت لك في الله، إن احتجت أي نصيحة أو استشارة، وسأظل أدعو لك بأن يملأ الله فراغك بحضوره، وقلقك بطمأنينته، وحزنك برحمته.