<p>أنا شاب في منتصف العشرينيات، خريج إحدى الكليات، وبالرغم من حصولي على شهادة جامعية، إلا أنني أعمل حاليًّا في وظيفة كحارس أمن، لا تشبه أحلامي، ولا تتوافق مع طموحي ولا سنوات الدراسة التي قضيتها بين الكتب والمذاكرة والتعب<span dir="LTR">.</span></p> <p>كل صباح أستيقظ وفي صدري ضيق، وكأنني أُجبر نفسي على الحياة، أذهب لعملي وأنا أشعر بالخذلان، وأقول في نفسي: (هل هذا هو مستقبلي؟ هل هذا ما كنت أطمح إليه؟).</p> <p>أشعر أن نفسيتي في الحضيض، وأكاد أفقد الحماس لأي شيء، بحثت كثيرًا عن عمل يناسب شهادتي ويحقق لي جزءًا من ذاتي، لكنني في كل مرة أعود صفر اليدين، لا واسطة، ولا فرصة، ولا حتى بصيص أمل يُعيد إليّ الثقة بنفسي<span dir="LTR">.</span></p> <p>لا أطلب المستحيل، فقط أريد فرصة عمل محترمة، تليق بتعبي ودراستي، وتعيد لي إحساسي بقيمتي واحترامي لذاتي. ما الحل؟ كيف أخرج من هذا الوضع الذي يقتلني ببطء؟ وهل أنا وحدي من يشعر بهذا التيه؟</p>
ابني الطيب المجتهد... سلامٌ من القلب لقلبك المتعب.
لقد وصلني صدى كلماتك كأنين رجلٍ يُقاوم ما لا يُطاق، ومع ذلك لا يزال صابرًا، يحاول أن يتمسك بشيء من الكرامة في زمنٍ يثقل على الكرام.
وأول ما أود أن أخبرك به: أنت لست وحدك، ولست ضعيفًا، ولست بلا قيمة. بل أنت بطلٌ من نوعٍ آخر، بطل يحارب في صمتٍ وسط واقعٍ قاسٍ، ولم يستسلم. وهذا وحده عظيم.
* اسمح لي أن أبدأ معك من عمق الجرح
أولًا: إن ما تمرّ به يُعرَف بـ "أزمة الهوية المهنية" (Vocational Identity Crisis)، وهي حالة شائعة بين الشباب الطموح الذي يجد نفسه مُرغمًا على القبول بوظيفة لا تعبّر عن قدراته أو دراسته أو تطلعاته، فيشعر للأسف بـالإحباط الذاتي (Self-disappointment) وانخفاض الدافعية (Low Motivation) وتآكل الثقة بالنفس (Erosion of Self-esteem) تدريجيًّا.
لكن، ورغم صعوبة ما تمرّ به، اسمح لي أن أُطمئنك:
هذه الأزمة مرحلة مؤقتة وليست هوية دائمة. فالوضع الحالي لا يُحدد مستقبلك، بل ردة فعلك تجاهه هي التي ترسم ملامحه القادمة.
ثانيًا: لماذا تشعر أنك تنهار؟
لأنك تحمل بداخلك توقًا طبيعيًّا للكرامة، وتحقيق الذات، وتقدير الجهد. وهو ما يُطلق عليه
"الحاجات النفسية العليا" أو الـ(Higher Psychological Needs) ، وهي ضرورية لتوازن الإنسان وصحته النفسية.
أنت تشعر بهذا الحزن لأنك إنسان حساس للعدالة، تعبت ودرست وتمنيت، ثم وجدت نفسك محاصرًا بوظيفة لا تليق بحلمك... وهذا لا يعني فشلك، بل يعني أنك حي، لم تمت بداخلك بعد.
ثالثًا: تسألني: ماذا أفعل؟ وهل هناك أمل؟
نعم، هناك أمل كبير، ولكنه يحتاج إلى استراتيجية واقعية:
1- تقبّل الواقع مؤقتًا دون استسلام:
وظيفتك الحالية لا تُعبّر عنك، لكنها ليست "وصمة"، بل مرحلة انتقالية. كل عمل حلال فيه رزق وكرامة، وقد ورد في الحديث الشريف: "ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبيّ الله داود كان يأكل من عمل يده"، فكن فخورًا بكسبك الشريف، الذي يكفيك عن السؤال والحاجة إلى الغير.
2- خصص وقتًا من يومك لبناء ذاتك المهنية:
حتى لو ساعة في اليوم، طوّر مهاراتك، ابحث عن كورسات مجانية أو مدعومة، ووسّع دائرة معارفك. هذا ما يُعرف بـ"إعادة الاستثمار في الذات"، وهو من أهم آليات الخروج من أزمات العمل.
3- ثم لا تقارن نفسك بالآخرين، بل قارن نفسك بنفسك:
فالمقارنة تُضعف العزيمة وتقلّل الرضا. قال تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}.
٤- حافظ على سلامك النفسي رغم الألم:
فأنت في مرحلة اختبار إيماني ونفسي، ولكن أبشر يا عزيزي فلقد قال الله عز وجل: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}، والتكرار هنا تثبيت وبشرى، فكل ضيق له أكثر من مخرج.
5- احكِ عن نفسك بإيجابية، حتى لنفسك فقط:
لا تقل: "أنا شغال شغل مش ليا"، بل قل: "أنا مؤقتًا أعمل في مكانٍ لا يشبهني، لكني في طريقي للتغيير"، فهذه الصياغة تغير كيمياء دماغك، وهو ما يُعرف بـ"إعادة برمجة الذات اللفظية" أو (Verbal Self-reframing).
رابعًا: اثبت على الإيمان بقَدَر الله مع الأخذ بالأسباب، فهو أصل الاتزان النفسي.
ورضاك المؤقت عن ظرفك لا يعني قبولك بالبقاء فيه، بل هو شكل من أشكال "الرضا الساعي"، فالرضًا لا يُخدّر الإرادة، بل يُنشطها للحركة والعمل.
* همسة أخيرة لابني الغالي:
يا بنيّ، صدّقني، أصعب المراحل تأتي قبل الانفراج، وما دام قلبك لا يزال نابضًا بالحلم، فالله سيهيئ لك طريقًا إليه.
أدعوك أن تبدأ الآن في التحرك بخطوات صغيرة.. كأن تسجل في دورة لاكتساب مهارات جديدة تدعمك في اللغات والحاسب الآلي. أعد كتابة سيرتك الذاتية، ثم تواصل مع أصدقاء موثوقين.
ولا تنسَ أن تبتهل إلى الله في الثلث الأخير من الليل، فهو القائل عز وجل: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.
كما أذكّرك بما قاله الإمام الشافعي:
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها ** فُرجت وكنت أظنها لا تُفرجُ
فرّج الله همّك، وأعانك على صبرك، وجعل لك من ضيقك مخرجًا، ومن حُلمك واقعًا. وأنا بجانبك دومًا إن احتجت أن تتكلم، أو تُعيد ترتيب أفكارك، أو تستمد طاقة من جديد.