<p style="direction: rtl;">السؤال: ما حكم ترديد الأغاني التي تتضمن لعن الغربة والبعد والجفا؟ وهل يدخل ذلك في لعن الزمان المحرَّم؟ انتشرت مؤخرًا في مواقع التواصل الاجتماعي أغانٍ تتضمن كلمات شائعة يُكثِر الناس من ترديدها، تحمل بين طياتها عبارات اللعن للغربة والبعد والزمن والظروف.</p> <p style="direction: rtl;">ولقيت هذه الأغاني رواجًا كبيرًا، وأصبحت تُستخدم في مقاطع مؤثرة تنشرها الأمهات مع أبنائهن، والأخوات مع بعضهن، والآباء مع أولادهم، بهدف التعبير عن الحب والاشتياق، مما جعل هذه العبارات تُتداول بصورة طبيعية ومحببة، دون التوقف عند معناها الشرعي أو أثرها العقدي.</p> <p style="direction: rtl;">ومن أبرز هذه الأغاني ما جاء فيه: "توعد ضُمَّك ضَمِّة كسّر فيها ضلوعَك، إقطع أنفاسك تبكّيك وشوف دموعك، حتى تتعلّم شو يعني منّك تحرمني ياي، وتحرّم تبعد عن حضني وتتطوّل برجوعك". [اللازمة:] "لك يلعن البُعد، يلعن الجفا، وفراق البيّهِدّ الحيل، عَ بُعدك أنا ببقى مش أنا، وبحسّ بخنقة وبويل..."</p> <p style="direction: rtl;">وفي المقطع الثاني: "أنا ما بهددّ، لمّا بشتاق بقول وبفعل، وشوقي الجوّاتي مئذي أكتر ما بتتخيّل، إوعك شي مرة تبعد عني وتجربني ياي، بيقتلني غيابك، وحياتك أنا ما بتحمّل..." كما ورد في بعض الأغاني الأخرى قولهم: "الله يلعن بي الغربة شو سوت بحالي، مره ومُرّمرتلي قلبي وسرقت مني الغالي، قلنا بنسافر سنتين ونرجع على الضيعة، ضاع العمر وبعده حسين ما خلص هالبيعة...".</p> <p style="direction: rtl;">وقد تذكرتُ هنا الحديث النبوي الشريف، عن النبي ﷺ، لما لعنت امرأة ناقةً لها، فقال ﷺ: "دعُوها، فإنها ملعونة"، وفي رواية: "لا تصحبنا ناقة ملعونة". وقد استنبط العلماء من هذا الحديث أن لعن المخلوقات (مما لا يستحق اللعن) منهيٌّ عنه، وأنه يُشرع تركها وعدم اصطحابها، وإن لم تخرج عن ملك صاحبها.</p> <p style="direction: rtl;">سؤالي إلى فضيلتكم: ما حكم ترديد الأغاني التي تحتوي على لعن الغربة، والبعد، والجفاء، والزمان، والظروف؟ وهل يعتبر ذلك من المحرمات الشرعية؟ هل يعتبر هذا النوع من اللعن دخولًا في باب لعن الزمان، وقد ثبت عن النبي ﷺ النهي عنه، كما في الحديث: "قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسبّ الدهر، وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار"؟</p> <p style="direction: rtl;">هل نية التعبير عن الألم أو الشوق أو الاشتياق، ترفع عن الشخص الإثم إن كان يردد تلك الكلمات دون قصد اللعن المباشر؟ وما الأثر العقدي والأخلاقي لتكرار هذه العبارات؟ وهل يُنصح المسلم بتجنّبها حتى وإن لم يقصد المعنى الحرفي؟</p> <p style="direction: rtl;">وهل يُعد الحديث عن ناقة لُعنت: "دعُوها فإنها ملعونة"، قاعدة عامة تُطبّق على كل شيء يُلعن بغير وجه حق؟ وهل يُفهم منه كراهة استعمال اللعن في الكلام عامةً؟</p> <p style="direction: rtl;">نرجو من فضيلتكم الإجابة المستوفاة، وبيان التوجيه الشرعي والتربوي واللغوي، لما فيه صلاح الفرد والأسرة والمجتمع. وجزاكم الله خير الجزاء<span dir="LTR">.</span></p>
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فالسؤال يدور حول قضيتين؛ القضية الأولى الاستماع إلى الغناء، والقضية الثانية لعن الغربة من خلال هذا الغناء.
أما الغناء فمحل خلاف لدى الفقهاء، وما نرجحه للفتوى أنه جائز بشروط وضوابط وضعها الفقهاء الذين أجازوا الغناء.
أما لعن الغربة، ولعن الظروف، ولعن الزمان فلا يجوز بحال، ويمكننا الترويح عن أنفسنا بغير هذا.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار" (رواه البخاري ومسلم)، وجاء الحديث بألفاظ مختلفة منها رواية مسلم: "قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم يقول: يا خيبة الدهر، فلا يقولن أحدكم: يا خيبة الدهر، فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره فإذا شئت قبضتهما"، ومنها رواية للإمام أحمد: "لا تسبوا الدهر فإن الله عز وجل قال: أنا الدهر الأيام والليالي لي أجددها وأبليها وآتي بملوك بعد ملوك".
أما حكم الغناء وضوابطه فقد فصلها الدكتور يوسف القرضاوي – رحمه الله – في فتوى مطولة قال فيه:
مسألة الغناء بآلة (أي مع الموسيقى) وبغير آلة، مسألة ثار فيها الجدل بين فقهاء المسلمين منذ الأعصر الأولى، فاتفقوا في مواضع، واختلفوا في أخرى.. اتفقوا على تحريم كل غناء يشتمل على فحش أو فسق أو تحريض على معصية، إذ أن الغناء ليس إلا كلامًا فحسنه حسن وقبيحه قبيح. وكل قول يخالف أدب الإسلام فهو حرام، فما بالك إذا اجتمع له الوزن والنغم وقوة التأثير؟
واتفقوا على إباحة ما خلا من ذلك في مواطن السرور المشروعة كالعرس، وقدوم الغائب وأيام الأعياد، وقد وردت في ذلك نصوص صحيحة صريحة. واختلفوا فيما عدا ذلك اختلافًا بينًا، فمنهم من أجاز كل غناء بآلة وبغير آلة بل اعتبره مستحبًا، ومنهم من منعه بآلة وأجازه بغير آلة، ومنهم من منعه منعًا باتًّا، بل عده حرامًا.
والذي نفتي به ونطمئن إليه من بين تلك الأقوال: إن الغناء -في ذاته- حلال فالأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد نص صحيح بحرمتها، وكل ما ورد في تحريم الغناء فهو إما صريح غير صحيح أو صحيح غير صريح...
ولكن لا ننسى في ختام هذه الفتوى أن نضيف إليها قيودًا لا بد من مراعاتها:
(أ) فلا بد أن يكون موضوع الأغنية مما يتفق وتعاليم الإسلام وآدابه؛ فالأغنية التي تقول: "الدنيا سيجارة وكأس" مخالفة لتعاليم الإسلام الذي يجعل الخمر رجسًا من عمل الشيطان ويلعن شارب "الكأس" وعاصرها وبائعها وحاملها وكل من أعان فيها بعمل.
والأغنية التي تمجد صاحب "صاحبة العيون الجريئة" أغنية تخالف أدب الإسلام الذي ينادي كتابه: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ...﴾ [النور: 30- 31]، ويقول رسول الله: "يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وعليك الثانية"... وهكذا.
(ب) ثم إن طريقة الأداء لها أهميتها، فقد يكون الموضوع لا بأس به، ولا غبار عليه، ولكن طريقة المغني أو المغنية في آدائه بالتكسر في القول، وتعمد الإثارة، والقصد إلى إيقاظ الغرائز الهاجعة، وإغراء القلوب المريضة -ينقل الأغنية من دائرة الحلال إلى دائرة الحرام من مثل ما يسمعه الناس ويطلبه المستمعون والمستمعات من الأغاني التي تصرخ بـ "ياه" و"يوه" و"ييه"... إلخ.
ولنذكر قول الله لنساء النبي: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْروفًا﴾ [الأحزاب: 32].
)جـ) هذا إلى أن الدين حرّم الغلو والإسراف في كل شيء حتى في العبادة، فما بالك بالإسراف في اللهو وشغل الوقت به ولو كان مباحًا، فإن هذا دليل على فراغ القلب والعقل من الواجبات الكبيرة والأهداف العظيمة، ودليل على إهدار حقوق أخرى كان يجب أن تأخذ حظها من وقت الإنسان المحدود، وما أصدق وأعمق ما قاله ابن المقفع: "ما رأيت إسرافًا إلا وبجانبه حق مضيع".
(د) على أن المستمع -بعد الحدود التي ذكرناها- يكون فقيه نفسه، فإذا كان الغناء أو نوع خاص منه يستثير غريزته، ويغريه بالفتنة ويسبح به في شطحات الخيال الحسي فعليه أن يتجنبه ويسد الباب الذي تهب منه رياح الفتنة على قلبه ودينه وخلقه فيستريح ويريح.
ولا ريب أن هذه القيود قلما تتوافر جميعًا في أغاني هذا العصر بكمها وكيفها وموضوعها وطريقة أدائها والتصاقها بحياة أقوام بعيدين كل البعد عن الدين وأخلاقياته ومثله.
فلا ينبغي للمسلم التنويه بهم، والمشاركة في نشر ذكرهم، وتوسيع نطاق تأثيرهم إذ به يتسع نطاق إفسادهم.
ولهذا كان الأولى بالمسلم الحريص على دينه أن يأخذ بالعزيمة لنفسه وأن يتقي الشبهات وينأى بنفسه عن هذا المجال الذي يصعب التخلص فيه من شائبة الحرام إلا ما ندر.
ومن أخذ بالرخصة فليتحر لنفسه وليتخير ما كان أبعد عن مظان الإثم ما استطاع، وإذا كان هذا في مجرد (السماع) فإن الأمر في (الاحتراف) بالغناء يكون أشد وأخوف؛ لأن الاندماج في البيئة "الفنية" كما تسمى خطر شديد على دين المسلم يندر من يخرج منه سالمًا معافى...
وهذا في الرجل، أما المرأة فالخطر منها وعليها أشد، ولذا فرض الله تعالى عليها من التصون والتحفظ والاحتشام في لبسها ومشيتها وكلامها ما يباعد الرجال من فتنتها وما يباعدها من فتنة الرجال ويحميها من أذى الألسن وشره الأعين وطمع القلوب المريضة كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [الأحزاب: 59]، وقال: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْروفًا﴾ [الأحزاب: 32].
واحتراف المرأة المسلمة للغناء يعرضها لأن تَفتن أو تُفتن ويورطها في محرمات قلما تستطيع التغلب عليها من الخلوة بالأجنبي للتلحين أو التسجيل أو التعاقد أو غيرها، ومن الاختلاط بالرجال الأجانب عنها اختلاطًا لا تقره الشريعة، بل الاختلاط بالنساء المتبرجات "المتحررات" من المسلمات بالوراثة ومن غير المسلمات هو محرم أيضًا.
والله تعالى أعلى وأعلم