<p>هل أكون ابنة عاقة إن اخترت راحتي؟ هل يمكن للأم أن تكره ابنتها حقاً؟ منذ أن تزوجت وبدأت حياتي تستقر، انقلبت أمي ضدي. لم تعد تكلمني منذ أكثر من ثلاثة أشهر، وتشوه صورتي أمام إخوتي وأقاربي، حتى جعلتهم يبتعدون عني<span dir="LTR">..</span></p> <p>فقط لأنني لم أقطع علاقتي بأبي، الذي تزوج بعد طلاقه منها. والحقيقة أن الطلاق لم يكن ظلماً لها، بل كانت هي من سبّبت له الأذى لسنوات، حتى لم يعد قادراً على الاحتمال<span dir="LTR">.</span></p> <p>ومع ذلك، وبعد الطلاق، أصبحت تطلب مني صراحة أن أختار: إمّا هي، أو هو<span dir="LTR">.</span></p> <p>أي قلب يُمكنه أن ينقسم بين والديه؟ لماذا أُجبر على اختيار لم أطلبه يوماً؟ لقد حاولت كثيراً أن أشرح، أن أعتذر، أن أبرر موقفي.. لكنها ترفض حتى سماعي، وتكذبني، وتصر على خصامي. هي أمي، نعم، لكنها تؤذيني نفسياً، تُثقل روحي كلما اقتربت منها، وتغمرني بالسلبية والحزن كل مرة أحاول فيها فتح باب للصلح. والأصعب من كل ذلك... أنني في الشهور الثلاثة التي تجاهلتني فيها، شعرت براحة نفسية لم أذقها من قبل<span dir="LTR">.</span></p> <p>فهل أنا آثمة؟ هل أكون عاقة؟ هل عليّ أن أضحي براحة قلبي واستقرار بيتي من أجل أم لا تريد إلا أن تراني مكسورة مثلها؟</p>
يا ابنتي الطيبة،
سلامٌ على قلبك المتعب، وسكينة لروحك التي تتألم بين برّ الوالدين وراحة النفس.
أول ما أود طمأنتك به: لا، لستِ عاقّة. فإنّ العقوق في شريعتنا لا يكون بمجرد الحزن أو الخلاف أو حتى القطيعة المؤقتة، بل هو في الأذى المتعمد، في الإهانة، في الترفع والتجبر والجحود.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه"، قيل: وكيف يلعن؟ قال: "يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه".
فهل أنتِ لعنتِ؟ هل أنتِ آذيتِ؟ بل إنكِ حاولتِ مرارًا أن تُصلحي وتشرحي، لكن الأذن أُغلِقت، والقلب أُقفل.
إن ما تعيشينه يُعرف بـ الصراع القيمي الداخلي (Internal Value Conflict)، حين يُطلب من الفرد أن يختار بين ولاءين أساسيين: الأم أو الأب، خاصة بعد الطلاق.
وهذا الصراع يولّد ما نسمّيه الضغط النفسي المزمن (Chronic Psychological Stress)، خصوصًا حين لا يكون الاختيار عادلاً ولا منصفًا، بل مفروضًا بالإكراه العاطفي.
وقد تبين في دراسات الأسرة أن بعض الآباء أو الأمهات – بعد الانفصال – يلجؤون إلى ما يُعرف بـ التحالفات السامة (Toxic Alliances) مع الأبناء، ليكسبوا تعاطفهم ضد الطرف الآخر، وهذا ما يبدو أن والدتك – سامحها الله – قد وقعت فيه، فأصبحت تُحمّلكِ وزر ما لا تملكينه.
واعلمي يا ابنتي، أن البر ليس معناه أن تُلغِي ذاتكِ أو تتنازلي عن كيانكِ. قال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}.
فتأملي: حتى حين يأمر الوالدان بما يخالف الدين – وهو أعظم من مجرد القطيعة – فإن الله لم يأمر بقطعهما، بل قال {فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}.. فكيف بمن يطالبك بقطع أبيكِ، وهو لم يظلم، ولم يُهن، بل فقط انفصل عنها؟!
ابنتي،
ليس من البر أن تذلي نفسكِ، ولا أن تُرهقي بيتكِ وزوجكِ ونفسكِ من أجل إرضاء أُم تُصر على الجفاء، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "لا ضرر ولا ضرار".
وعلى ضوء هذا، فإن ما تعانيه من ألم وتوتر مستمر يُصنّف بما يسمى Relational Trauma، أو الصدمة الناتجة عن العلاقات القهرية.. فهل يُعقل أن يُطلب من ابنة بارة أن تُمزق نفسَها كل يوم باسم البر؟!
- لكِ أن تواصلي بر أمك، ولكن بطريقتك، بما لا يُهينكِ ولا يُدمركِ، كأن ترسلي لها رسالة ولتكن كل أسبوع، بكلمات رقيقة دون توقّع الرد.. فهي لفتات بسيطة ولكنها ترقق القلوب أحيانًا، والرسالة ليتك تعبرين فيها عن مشاعرك وتجملين لها أسبابًا غائبة عنها.. وتكون كالتالي:
(أمي الحبيبة، رغم كل ما بيننا، ما زلتِ أمي التي أحبها وأدعو لها. أعلم أن ما مررتِ به صعب، لكني أنا أيضًا أتألم. لم أختر أن أنقسم بينك وبين أبي، ولم أرد إلا أن أكون بنتًا بارة بكما معًا. قلبي يشتاق لكِ، وأدعو الله أن يلين قلبكِ عليّ، ويجعل لنا في القادم صلحًا ورحمة. إن أخطأتُ فسامحيني، وإن قسوتِ فإني أعذركِ. دائمًا ابنتكِ المحبة لك دائما).
- ادعي لها كل ليلة في صلاتك وفي أوقات استجابة الدعاء. قدّمي لها هدايا في المناسبات، حتى لو ردّتها.
- وكذلك واصلي برك لأبيكِ، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. أما وإن عادت المياه مع والدتك لمجاريها الطيبة، وإن شاء الله سوف يهدي الله أمك وتعود، فحاولي ألا تذكري لها أي شيء يثير ضغينتها نحو والدك، وبقدر الإمكان لا تحدثيها عنه، حتى لا تفتحي صفحة تم طيها.
ولكن تذكّري، يا من سكَنت الراحة قلبها لأول مرة: أن الله لا يرضى لعباده الشقاء، ولا يرضى لكِ الظلم، ولو كان من أقرب الناس. فشعورك بالراحة النفسية في بُعدها، هذا لا يعني العقوق، بل يعني أنكِ تداوين نفسك، وتحمين بيتكِ. وهذا ما يُعرف في علم النفس بـ Self-Preservation حماية الذات النفسية من الانهيار، وهو حق مشروع، بل واجب.
* همسة أخيرة لقلب ابنتي الغالية:
أنتِ لستِ عاقّة، بل صابرة. لستِ قاسية، بل متعبة. ولستِ جاحدة، بل باحثة عن العدل والاتزان.
واصلي الدعاء لأمكِ، واحتسبي أذاها، وارفعي يدك إلى ربّ العالمين: "اللهم أصلح ذات بيننا، واهدِ قلب أمي إليّ، وافتح لها من أبواب الرحمة ما يغمرها ويشفيها ويحنّنها عليّ".
واعلمي أن الله يرى، ويسمع، ويجبر الكسر، ويُبدل الضيق بالفرج.. فبعض المشاكل تداويها الأيام بفضل الله تعالى.. فقط اصبري وأبشري.