عطاء الأنوثة في ميزان الحياة

<p>السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إلى من صاغته التجربة، وصقلته الحروف، وصاحب همّ الكلمة التي تُضيء وتُرشد&hellip; إلى المستشار الذي لا ينظر إلى الظواهر فقط، بل يُنصت للوجع المختبئ خلف الكلمات&hellip; أكتب إليكم وفي القلب سؤال لم أجد له جوابًا في زحام الناس، ولا في صمت التفكير.</p> <p>سيدي، تُربّى النساء في مجتمعاتنا على أن &quot;الحنان واجب&quot;، وأن &quot;العطاء فضيلة&quot;، وأن &quot;التضحية سرُّ البقاء&quot;. وتمرّ الأعوام، فتمنح المرأة قلبها للجميع، وتتحول حياتها إلى مرافئ تُرسو فيها قلوب الآخرين... تعتني بمن حولها، تُحسن الظن، تُبادر، تُربّت على الأكتاف المتعبة، وتكون دائمًا الأقرب حين يُصاب أحدهم بالخدش أو الانكسار.</p> <p>لكن&hellip; من يربّت على قلبها حين تنكسر؟ ومن يلتفت لتعبها حين تُرهقها كثرة الأدوار، وثقل التوقعات؟ ولماذا تُلام إن قالت: &quot;تعبت!&quot; وكأنها ارتكبت جرمًا في حق الفضيلة؟ لقد أصبحت المرأة &ndash; دون وعي منها &ndash; تقدم ذاتها قربانًا لصورة مثالية تُطاردها منذ الطفولة: أن تكون الأم الحانية، والزوجة الصابرة، والابنة البارة، والأخت الحاضنة&hellip; لكنها حين تُهمَّش، أو تُنسى، أو تُخذل&hellip; يُقال لها: &quot;لا أحد طلب منكِ كل هذا!&quot; وكأن المجتمع يربّيها على العطاء، ثم يعاقبها عليه حين تتألم.</p> <p>سيدي المستشار، أكتب إليك وأنا أبحث لا عن فتوى، ولا عن عزاء مؤقت، بل عن تأصيل إنساني وفكري: متى يتحول العطاء إلى استغلال؟ وأين الحدّ الفاصل بين الصبر النبيل&hellip; والسكوت المُهين؟ وكيف للمرأة أن تحمي قلبها من الإنهاك، دون أن تُتَّهم بالأنانية؟ وهل من العدل أن يكون عطاؤها واجبًا&hellip; وتقدير الآخرين خيارًا؟ إنني لا أطلب مرافعة لصالح المرأة، بقدر ما أبحث عن ميزان عدل فكري وأخلاقي يعيد الأمور إلى نصابها. فالعطاء جميل، لكنه حين يُفرَض ويُستنزَف، يُصبح عبئًا يكسر الظهر ويخنق الروح.</p> <p>سيدي، هلّا كتبتم لنا شيئًا يُعيد الاعتبار لهذا النموذج المنسي من النساء؟ نساء لا يصنعن الضجيج، لكنهن يحملن الأعباء بصمت. لا يطالبن إلا بالقليل من التقدير، ولقلبٍ يُبادلهن شعورًا يشبه الوفاء. بانتظار كلماتكم التي تنصف ما سقط من الحسابات، وتعيد بناء الوعي، لا على قاعدة الواجب وحده، بل على إنسانية الشعور وتوازن العلاقات. وتقبلوا مني وافر الاحترام والتقدير، من امرأةٍ تحمل سؤال كثيرات&hellip; في قلبٍ واحد<span dir="LTR">.</span></p>

في البداية، لا بد أن أشكركم على هذه الاستشارة، التي هي قطعة أدبية مشحونة بالمعاني والعتاب عما تتعرض له المرأة في بعض المجتمعات من غبن لعطائها، ونسيان لتضحياتها، ونكران للكثير من معروفها.

 

والحقيقة أن المرأة أو الأنثى على مر التاريخ تعرضت لكثير من الإجحاف، وقليل من الإنصاف، حتى في التجربة الغربية الحديثة، فرغم غياب القيود عن حركتها وإطلاق العنان لحريتها وجموحها، فإن هذا الإطلاق يمكن النظر إليه من خلال "تسليع المرأة"؛ ففي مرحلة شباب المرأة ونضارتها تُرفع قيمتها، ومع تقدم العمر وذبول النضارة والجمال، تطبق أخلاق الحداثة عليها قانونها الصارم في المنفعة، فتقل قيمة المرأة بصورة مخيفة، ليُنظر إليها كعبء يجب التخلص منه.

 

أما الرؤية الإسلامية، البعيدة عن القراءات المغلوطة،  فتنصف المرأة وتنظر إليها نظرة تقدير وتبجيل ورعاية وحماية وإكرام وإنصاف، ووردت أحاديث أن المرأة التي يتوفى عنها زوجها وتقيم على تربية عيالها، تسابق النبي صلى الله عليه وسلم على باب الجنة؛ ففي مسند أبي يعلى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول من يُفتح له باب الجنة، إلا أنه تأتي امرأة تبادرني، فأقول لها: مالك؟ من أنت؟ فتقول: أنا امرأة قعدت على أيتام لي".

 

فالإنصاف الإلهي إذا نظرت إليه المرأة، هان عليها كل جحود تلقاه، وأدركت بفكرها وإيمانها أن ربها هو الذي يعطيها التقدير والمكافأة، عند تلك اللحظة ينفتح قلبها ومشاعرها على فضاء آخر من العطاء، وعلى تقدير من نوع مختلف، وذلك عندما تصل الدنيا بالآخرة فتدرك عظيم الجزاء، وهذا الإدراك هو وقاية من الإنهاك لذلك القلب الذي هو مستودع من مستودعات الرحمة في البشرية.

 

والحقيقة أن تحويل قضية عطاء المرأة نحو ميزان الحقوق المادية هو إجحاف بعطاء المرأة وتضحيتها؛ فالميزان الحق هو ميزان الإنسانية الذي ينظر إلى العطاء المخفي من العطف والرحمة والحنان والرعاية الذي تسكبه المرأة على أطفالها وزوجها وأسرتها التي أنشأتها أو التي جاءت منها، ولا شك أن وجود هذه الرحمة الأنثوية هو تلطيف لخشونة الحياة وغلظتها وعنفها.

 

ومن ثم فالميزان الإنساني هو الميزان الأوفى للمرأة، وهذا يفرض ألا تناقش قضايا المرأة خارج هذا الميزان الذي يعطيها حقها المادي والأدبي والوجودي لأنها أصل الحياة، في كتابه "عصر القرود" يقول الدكتور مصطفى محمود: "ولا شك أن أمهاتنا الرجعيات من الجيل القديم، قد فهمن الأنوثة أكثر من حفيداتهن المودرن المثقفات"؛ فالنساء في الزمن السابق، أو الجدات كن لا ينتظرن شيئًا ولا ردًّا للجميل، وكان عطاؤهن كبيرًا ولا ينتظرن من أحد شيئًا، حتى في لحظات مرضهن وقبيل مغادرتهن الحياة، كن لا يتوقفن عن الدعاء الجميل بالخير الوفير لأسرتهن وعموم الأهل والأقارب، حتى كن ينسين أنفسهن في كثير من الأحيان.

 

وقد استوقفتني عبارة مؤثرة للكاتبة السعودية "نورا عبد المجيد" في روايتها "لاسكالا" تقول فيها: "النساء لا تشيخ بعد بقائها على قيد الحياة أعوامًا طويلة، النساء تشيخ عندما تضع قوتها وأحلامها في بناء حائط تستند عليه فيسقط على رأسها"...

 

تلك المقولة هي ما تلخص سؤالكم الكريم؛ فالمرأة من طبيعتها أن تضع كل أحلامها وطموحها في سلة واحدة وتعطيها لأسرتها زوجًا وأبناء، أو لأسرتها من أخ وأب... إلخ، وكأن هذا العطاء "شيك على بياض"، وقد يخيب الكثير هذه الثقة ويجحد هذا العطاء اللامحدود.

 

وما أروع قول الأديب العقاد في روايته "سارة" حين قال: "المرأة حين تمثل الأنوثة هي مناط الخلق والتكوين، وأداة التوليد والدوام والخلود، وهي مظهر القوة التي بيديها كل شيء في الوجود وكل شيء في الإنسان".