<p>السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أنا امرأة عرف عني حب الخير ومساعدة الناس قدر استطاعتي، وأحاول دائمًا أن أكون سببًا في التيسير على المحتاجين. لكن مؤخرًا، أصبحت حالتي المادية صعبة جدًا، ولم أعد أملك ما أساعد به الآخرين.</p> <p>تواصلت معي امرأة لا أعرفها شخصيًا، تقول إن اسمها "أم فلان"، وتكرر الاتصال بي من أرقام مختلفة، وتشتكي من ظروفها المعيشية وتطلب مساعدات مادية، مرة غسالة، ومرة مجففة، وأحيانًا مبالغ مالية. وكنت أشفق عليها، وأعطيها مما أستطيع، رغم ضيق حالي، ثم أحظرها لكي لا أُحرَج، لكنها تعود بأرقام جديدة، وتستمر في الطلب والإلحاح. ومؤخرًا، اتصلت وقالت إن لديها ورمًا في الثدي، وتم اكتشاف كتلتين، وأشارت إلى أنها بدأت التحاليل وسيبدأ العلاج، وكانت تلمّح بأنها بحاجة إلى دعم مادي، وإن لم أملك أن أجمع لها من الناس.</p> <p>وأنا - والله يشهد - ليس بخلاً، ولكنني بالفعل لا أملك ما أقدمه. قلت لها إن الدولة التي تسكنين فيها توفّر علاج السـرطان مجانيًا، إضافة إلى مساعدات غذائية ومالية للمصابين، وذكّرتها بأن هناك جهات رسمية مختصة تدعم مرضى السـرطان، ثم حظرتها. ثم عادت تتصل من أرقام جديدة، وتبكي لأني حظرتها. وطلبت مني أن أزورها في بيتها، وقالت: "أنا بحاجة لك"، لكني خفت كثيرًا، خاصة أني لا أعرفها أصلًا، وهي متزوجة ولها أولاد وأخت في نفس البيت، وأنا امرأة وحيدة، فرفضت، وحظرتها مرة أخرى. الآن ضميري يؤنّبني كثيرًا، وأخشى أن أكون جرحتها أو أذيتها نفسيًا، أو أكون قد وقعت في نهي الله تعالى: "وأما السائل فلا تنهر". فهل عليّ إثم؟ وهل أُعتبر صددتُ سائلًا؟ أم أن تصرفي كان في محله؟ أرجو منكم التوجيه، وجزاكم الله عني خيرًا<span dir="LTR">.</span></p>
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أختي الكريمة، بارك الله فيكِ، ونفع بكِ، وزادكِ حرصًا على الخير وإحسانًا إلى الناس بحكمة ولُطف. واعلمي -أختي السائلة- أنك طرحتِ مسألة دقيقة تُلامس مشاعر كثيرة من أهل الخير والإحسان، ممن يُرهَقون نفسيًّا وماديًّا أمام تكرار طلبات الناس، خاصة حين لا يملكون ما يُقدّمون، فيقعون في حيرة بين ضمير حيّ، وإمكانات محدودة، ومواقف ملتبسة، ومن هنا فاسمحي لي أن أجيبك على استشارتك بعدة أمور شرعية وعقلية ومجتمعية مهمة، وذلك على النّحو التالي:
أولًا: مكانتكِ محفوظة عند الله عز وجل
فأنتِ -كما وصفتِ نفسك- من أهل الإحسان، وأهل الخير، ولذا أبشري بأنّ الله في عونك كما أنتِ في عون عباده؛ ففي الحديث: "إنَّ اللهَ في عونِ العبدِ ما كان العبدُ في عونِ أخيه". وما دمتِ تقدمين المساعدة ابتغاء وجه الله؛ فالله لا يُضيع أجرك أبدًا، حتى وإن لم تستطيعي الاستمرار.
ثانيًا: قوله تعالى ﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ﴾ لا يعني وجوب العطاء في كل الأحوال
قال تعالى: ﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ﴾ يقول بعض المفسرين في هذه الآية: "لا تزجر السائل في وجهه، ولكن رُدَّه ردًّا جميلا"، أي أن الآية تنهى عن الإيذاء اللفظي والنفسـي، لكنها لا توجب أن تعطي كل سائل ما يطلب، خاصة إن كنتِ لا تملكين أو تشكّين في صدق السائل، وفي الحديث: "إِنَّمَا الصَّدَقَةُ عَن ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَن تَعُولُ"، فلا يُشرَع لكِ أن تُخرجي مالًا لا تملكينه، ولا أن تحرمي نفسك أو من تعولينهم من الحقوق الواجبة لتلبي طلبات من يلحّ أو يستدر العواطف.
ثالثًا: ما تفعلينه من حجبها وتجنّب التواصل معها ليس إثمًا، بل قد يكون واجبًا في حقك
الأصل أن المسلم لَا يَحِلُّ له أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ، وفي الحديث، قالوا: كيف يُذلّ نفسه؟ قال: "يُعَرِّضُها لما لا يُطيق"، وما دامت هذه المرأة السائلة تكرر التطفل، وتلِحُّ، وتطلب الزيارة دون معرفة سابقة، فذلك من المواطن التي يُستحب فيها الاحتياط والحذر، لا سيما في ظل تنامي ظاهرة الاستغلال باسم الدين أو المرض أو الحاجة، ولذا في القرآن: {خُذُوا حِذرَكم} لكن مع أخذ الحذَر {فانفروا}، فيجب الحيطة والحذر والتنبه ولا تغريك حماسة فعل الخير دون الأخذ بالاحتياطات اللازمة؛ فالمسلم ليس بالخبّ ولا الخبّ يخدعه، مع إحسان الظنّ في الناس من حولنا على كل حال.
رابعًا: الواجب في مثل حالتكِ ما يلي:
1) إغلاق الباب برفق ولباقة دون قسوة، كأن تقولي: "أسأل الله لك العافية والفرج، وأنا لا أملك الآن ما أقدمه، وعليكِ التوجه للجهات المختصة التي تُعنى بهذه الحالات، وأسأل الله أن يسخّر لك من يعينك من أهل الخير".
2) عدم التواصل معها مرة أخرى، لا هاتفًا ولا زيارة، لا سيما مع تكرار الحظر والاتصال، فهذا من علامات الاستغلال أو الأقل: التطفّل المؤذي.
3) عدم الشعور بالذنب، فمن ترك العطاء لعجزٍ أو خشية ضررٍ -نفسـي أو مادي- لا يأثم بل يؤجر على حسن التصرّف.
4) الدعاء لها بصدق، فهو خير ما تقـدّمين، وقد يكون هذا أحبّ إلى الله من درهمٍ أو دينار لا تملكينه.
5) توجيه من يلحّ إلى الجهات المختصة، مثل الجمعيات الرسمية أو الموثوقة، وهذه طريقة شرعيّة سليمة لتخفيف العبء عن الفرد دون حرمان السائل من المساعدة.
وأختم جوابي ببعض الوصايا العملية المستندة إلى الشرع والعقل:
1) اجعلي لك صندوقًا صغيرًا للصدقة، ولو بمال يسير شهريًّا، حتى لا تحرمي من فضل العطاء دون أن تُجهدي نفسك.
2) تعاملي مع الحالات المجهولة أو الإلكترونية عبر وسطاء موثوقين، ولا تتواصلي شخصيًّا أبدًا، خاصَّة مع النِّساء اللاتي لا تعرفينهنّ.
3) ضعي لكِ قاعدة ثابتة: "لا أعطي دون تحقق"، وهذا نهج السلف، فقد سُئل ابن المبارك رحمه الله: كيف تُنفق صدقاتك؟ قال: "أتحرى الفقراء الثقات وأعطيه".
4) استعيني بالله دائمًا بالدعاء: "اللهم اجعلني مفتاحًا للخير، مغلاقًا للشر، ووفقني للحق والعدل والإحسان".
5) تذكَّـري أن رفض العطاء ليس دائمًا ظلمًا للسائل، بل قد يكون عدلًا لكِ ولنفسكِ، والعدل مقدّم في كثير من المواطن.
أختي السائلة الكريمة:
أنتِ -بإذن الله- مأجورة غير مأزورة، وموقفكِ حكيم، مبنيّ على الرفق والحيطة في آنٍ واحد. ووصيتي لكِ: لا تسمحي للابتزاز العاطفي أن يستنزف قلبك، ولا تبالغي في قبول الاستمالات العاطفية على حساب التعقل والحيطة والحذر؛ فالدين يأمر بالإحسان، ولكن بالحكمة، وأسأل الله تعالى أن يرزقك الحكمة والأدب في التعامل، وأن يحفظك بحفظه، وأن يسترك وأهل بيتك بستره، وأن يصرف عن الشرور حيث كانت، وبالله التوفيق.