حُسن الظن فريضة والتسرع في الأحكام مهلكة.. حين يغيب التورع وتحضر الفِراسة المدّعاة

<p>السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فضيلة المستشار، أكتب إليكم وأنا في قلبي ألم عميق لا يخفى إلا على الله، راجية منكم النصح والمشورة.</p> <p>زوجي &ndash; أصلحه الله &ndash; سريع الحكم على الناس، لا يكاد يرى أحدًا أو يسمع عنه موقفًا، إلا وأصدر فيه حكمًا قاسيًا، وكأنه يعرف سريرته، فيصفه بأنه متكبر أو منافق أو غافل، وقد يتجاوز ذلك إلى السخرية من تصرفاته أو مظهره، معتقدًا أن لديه فراسة لا تخطئ، وأنه يعرف الناس من أول نظرة! كم أتمنى أن يتأنى ويتورع، وأن لا يظن بنفسه الكمال، فليس كل من بدا عليه الوقار هو من أهل الخير، وليس كل من بدا عليه الذل والهوان هو مذنب أو فاسد.</p> <p>دائمًا ما أذكره بحديث رسول الله ﷺ الطويل، الذي فيه مشهد مؤثر لطفل يرضع من أمه، إذ: &quot;مر رجل راكب على دابة فارهة، وشارة حسنة، فقالت أمه: اللهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الرضاع ونظر إليه، وقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم عاد للرضاع، ثم مروا بجارية وهم يضربونها ويقولون: زنيتِ سرقتِ، وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، فقالت أمه: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فترك الرضاع ونظر إليها وقال: اللهم اجعلني مثلها...&quot; وما بين الأم والرضيع كان حوارًا عجيبًا، حتى بيّن لها أنه لم يدعُ لنفسه أن يكون مثل الرجل لأنه كان جبارًا، ولا أن يُجَنَّب حال الجارية لأنها كانت مظلومة، رغم أن الظاهر كان يوحي بالعكس.</p> <p>يا شيخنا، كلما ذكرت له هذا الحديث وغيره من أحاديث النبي ﷺ التي تحذر من التسرع في الأحكام والظن بالناس، كحديث &quot;أسامة بن زيد&quot; الذي قتل رجلًا قال &quot;لا إله إلا الله&quot;، قال له النبي ﷺ: &quot;أشققت عن قلبه؟&quot; يبدو أنه لا يتأثر كثيرًا، فهو يرى نفسه صاحب نظرة ثاقبة، وأنني &quot;طيبة زيادة عن اللزوم&quot;.</p> <p>أنا لا أريد أن أكون زوجة تتصيد أخطاء زوجها، ولكني أعيش مع قلب موجوع، أخشى أن يكون قد خُدع بحسن ظنه بنفسه وسوء ظنه بالناس. أرجو منكم كلمة تنفعني في نصحه، أو توجيهًا أعمل به لأكون سببًا في هدايته، أو حتى صبرًا أحتسبه عند الله. وجزاكم الله عني خير الجزاء.</p>

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أيتها الأخت الكريمة الصابرة المحتسبة، جزاكِ الله خيرًا على هذه النفس الحريصة على الخير لزوجها، الموجوعة من أجل دينه قبل دنياك، والواضح أنكِ صاحبة قلب حيّ ووعي راقٍ، فبارك الله فيكِ، وزادكِ حِلمًا ونصحًا وثباتًا، وما ذكرتِه في رسالتك ليس مجرد انزعاج من خلقٍ سلوكي عابر؛ بل هو جرحٌ عميق في روح محبّة تخاف على زوجها أن يُفتن بظنه، ويهلك بمخالفته لأصول شرعية عظيمة، منها التثبت، ومنها الورع، ومنها حسن الظن، وكلها مذكورة بنصوص الشرع وموصوفة في شمائل أهل الإيمان.

 

أنتِ هنا لا تشتكين من زوجكِ، بل تبكين عليه… من خشيته لا منه، وهذه منزلة رفيعة من الصدق في الحياة الزوجية، لا يبلغها إلا من رُزق قلبًا صادقًا ونظرًا بعيدًا. ولنُبحر معًا في تحليل علمي وشرعي ونفسي وواقعي لهذه المسألة الحساسة.

 

حيث إنّ ما عرضتِه هو من صور الابتلاء المعاصرة، التي تجتمع فيها الثقة المفرطة بالنفس مع سوء الظن بالناس، ويُضاف إليها ادّعاء الفِراسة التي تُوظَّف لتبرير التعدي على عباد الله بالحكم الجازم على نواياهم وسرائرهم، وهذه أمور نهى عنها الشـرع، وضررها كبير على الدين والنفس والمجتمع.

 

أولًا: حُرمة الحكم على الناس بالباطن

 

قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ وقال رسول الله ﷺ: "إِيَّاكم والظنَّ، فإنَّ الظنَّ أكذبُ الحديثِ، ولا تجسَّسوا، ولا تحسَّسوا، ولا تباغضوا، وكونوا عبادَ اللهِ إخوانًا"، وفي الحديث القدسي: "من عادى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب". فكيف بمن يُصدر أحكامًا على الناس من غير بيّنة، وربما كان فيهم أولياء صالحون، مظلومون، لا يُعرف فضلهم إلا يوم القيامة؟!

 

ثانيًا: الظواهر لا تكفي للحُكم على السرائر

 

قال رسول الله ﷺ لأسامة بن زيد حين قتل رجلًا نطق بالشهادة في الحرب: "أقال: لا إله إلا الله، وقتلتَه؟!" قال: نعم يا رسول الله، إنما قالها خوفًا من السيف، قال: "أشققتَ عن قلبه؟!"، وهذا حديث واضح، قاطع، لا يُمكن تأويله، ويكفي أنَّ النَّبيَّ ﷺ أنكر على صحابي فقيه مجاهد -مثل أسامة بن زيد- فكيف بمن يدّعي أنه يعرف نوايا الناس بنظرة أو سَمْتٍ خارجي؟!

 

ثالثًا: حديث "الرضيع وأمّه" درسٌ في عُمق الفهم وإحسان الظن

 

إنّ الحديث الذي ذكرتِه في استشارتك، رواه الإمام مسلم، وفيه الطفل الذي ينطق وهو يرضع، ويميز بين الظاهر والباطن، ويرد على أمه بوعي نبوي، "اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَه"، عن الراكب المتكبر، و"اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا" عن الجارية المظلومة، وهو من أبلغ ما يُستدل به على خطورة الحكم بحسب الظاهر فقط، وعلى أن الله وحده يعلم السـرائر، وأن كثيرًا من الناس يُبتلون إما بمدح من لا يستحق، أو بذمّ من هو وليّ عند الله.

 

رابعًا: الادعاء بالفِراسة دون ورع ولا علم قد يكون من الغرور

 

إنّ الفِراسة حقّ، لكن ليست معصومة، وليست لكل أحد. وقد قال ابن القيم -رحمه الله-"الفِراسة تَصح وتَضعف بحسب الإيمان، فإذا كان صاحبها فاسقًا أو ظالمًا أو متكبرًا فإن فراسته تخطئ كثيرًا، ويظن أنه مصيب"، وكم من مريضٍ بداءِ العُجب يبرّر سوء خلقه بادّعاء "فراسة ثاقبة"، بينما هو في الحقيقة يُهلك نفسه ويجرح عباد الله.

 

خامسًا: وصايا عملية علمية واقعية للتأثير والإصلاح

 

وإليك عددًا من الوسائل العملية أنصحك بها للعمل على إصلاح حال الزوج، ومنها ما يأتي:

 

1) لا تواجهيه بكثرة النصح المباشر: بل اتبعي أسلوب التمهيد الهادئ، وأظهري له أنكِ حريصة على قلبه، لا على تصرفه، وركزي على الإشفاق لا العتاب.

 

2) استعيني بسـرد القصص الواقعية المؤثرة، مثل قصة الإمام مالك حين كان يرى رجلًا فقيرًا في ثياب بالية، فيُجلّه لأنه ربما يكون خيرًا عند الله من كثير من المتزينين.

 

3) افتحي حوارات "مفتوحة" وليس جدلية: اسأليه: "ما رأيك لو كان هذا الشخص مظلومًا؟ لو أنك أخطأت في حقه؟ كيف نتدارك؟" لا تقولي له: "أنت مخطئ" بل اجعليه هو يراجع نفسه.

 

4) ادفعيه لقراءة سيرة النبي ﷺ مع المنافقين، وكيف أنه ﷺ كان يعرف بعضهم بالنفاق، ومع ذلك لم يفضحهم، ولم يسخر منهم، بل قال: "لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه"، فتأمّلي كم في هذا الموقف من تقدير للمآلات، وصبر، وتورع.

 

5) أكثري من الدعاء له في ظهر الغيب، ولا تحتقري الدعاء أبدًا؛ فسهام الليل لا تخطئ، فعليك بالدعاء بأن يرزقه الله نور البصيرة، وحُسن الخُلق، والرفق بعباده، وثِقِي أن الدعاء مفتاح القلوب.

 

6) لا تجعلي هذا الخلق يحجبك عن رؤية فضائله الأخرى، بل اشكريه على أي خُلق حسن فيه، فهذا يُقرب القلوب ويجعل النصيحة أيسر قبولًا.

 

7) احتسبي هذا الصبر، واعملي على نُصح غير مباشر: كتوجيهه إلى محاضرات أو مقاطع قصيرة مؤثرة عن حُسن الظن بالناس، وتجنب الغرور، وخطر التسرع بالحكم.

 

8) تواصلي مع إمام أقرب مسجد يصلي فيه زوجكِ، وخاصة يوم الجمعة، وأبلغيه بتلك المشكلة على أنها مشكلة صديقة لكِ، وأنكِ تريدين إعلام زوج صديقتك من خلال الخطبة بهذه الأمور شرعًا، لا على أنها نصيحة من الزوجة، وليتحدث الخطيب دون تفاصيل أو تصريح أو تجريح.

 

وختاما أختي الكريمة:

 

إن أسوأ ما يقع فيه الإنسان هو أن يظن نفسه على خير وهو يُهلك عباد الله بسوء الظن والتجريح. ولكنكِ –بإذن الله– على خير، وسعيكِ لنُصحه وحرصكِ على نجاته دليل إيمانك العميق. فامضي على بصيرتك، بذكاءٍ، وصبرٍ، واستمرار في الدعـاء والعمل، وتذكري دائمًا قول الله تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾، أسأل الله تعالى أن يديم نفعكم وأن يحفظكم بحفظه، وأن يكتب لزوجك الكريم الهداية والرشاد والبر والتقوى.