<p>ماذا نقصد بالتطبيع الحضاري؟ وهل هذا التطبيع له تأثيرات على الهوية والانتماء؟</p>
التطبيع بكافة أشكاله السياسية والثقافية والحضارية أحد المآزق التي يواجهها العقل المسلم، وله تأثيراته السلبية على الهوية والانتماء؛ إذ يسلخ الشخص عن انتمائه وهويته ويدفعه إلى الانتماء إلى حضارة وقيم أخرى في سلوكها وتفاصيل حياتها بل وفي كلماتها وتحيتها وأحلامها.
والتطبيع كمفهوم يتمدد في أكثر من مجال، وهو يشير إلى ضبط السلوكيات والقيم وفق نموذج معياري ما بحيث تُرى الأفكار والأفعال على أنها "طبيعية" وتصبح أمرًا مسلمًا به أو "طبيعيًّا" في الحياة اليومية.
والتطبيع في الجانب الثقافي يؤدي إلى نشر قيم وسلوكيات ثقافة معينة وتهميش ثقافة وقيم أخرى، وهذا يؤدي إلى تقييد التنوع، وغرس التبعية ويقلل الثراء الاجتماعي، ويغري بالتقليد من المغلوب والضعيف للقوي والمنتصر، وهو ما يعمق عدم المساواة.
وربما هذا ما أشار إليه العلامة عبد الرحمن بن خلدون، في مقدمته، بقوله: إن "المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده"، ويعلل ابن خلدون هذه التبعية والاستلاب الحضاري والتطبيع الثقافي والحضاري، بقوله إن "النّفس تعتقد الكمال فيمن غلبها، وأنها انقادت إليه، إمّا لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أنّ انقيادها ليس لغلب طبيعيّ إنّما هو لكمال الغالب"، وعند هذا الخلل الفكري في رؤية المغلوب للمنتصر، تبدأ عملية التقليد والتبعية، يقول ابن خلدون "فإذا غالطت بذلك واتّصل لها اعتقادًا فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبّهت به وذلك هو الاقتداء... ولذلك ترى المغلوب يتشبّه أبدًا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتّخاذها وأشكالها بل وفي سائر أحواله".
ولذا ينظر البعض إلى هذا التطبيع الحضاري على أنه نوع من الاستلاب أو النهب للذات الحضارية، يترافق معه استتباع واستعباد وضعف للهوية الانتماء.
والحقيقة أن هذا التطبيع الحضاري يكشف عن خطأ فكري كبير في فهم طبيعة الحضارة، وطبيعة مشاركات الشعوب والأمم المختلفة في بناء الحضارة؛ فمنذ مسيرة الإنسان على الأرض، من النادر أن ترى أمة من الأمم الكبرى لم تساهم في بناء الحضارة الإنسانية، أو أنها لم تغترف من عطاء حضارة أخرى في لحظة صعودها وفتوتها؛ فالحضارة تتأثر وتؤثر.
فهم هذه الحقيقة التاريخية يُقاوم روح التطبيع والاستتباع الحضاري، وكما تقول عالمة الأنثربولوجي الأمريكي الشهيرة "روث بندكت": "إن التاريخ لا يمكن كتابته كما لو كان ينتمي إلى جماعة واحدة من الناس، والحضارة تم بناؤها تدريجيًّا نتيجة مساهمات إحدى الجماعات في وقتٍ ما، وجماعات أخرى في أوقات أخرى".
هذه الفكرة تعصف بالمقولات العنصرية عن نشأة الحضارات أو اختصاص شعب أو أمة معينة بفضلها على الحضارة الإنسانية دون الآخرين.
وهنا ننظر إلى المقولة المنصفة للفيلسوف الأديب "أبو حيان التوحيدي" (ت414هـ) عندما سئل عن أيهما أفضل العرب أم العجم؟ وكان هذا السؤال في ذروة مجد الحضارة الإسلامية إبان الخلافة العباسية وحالة النهضة الثقافية والعسكرية والحضارية العربية، وتسيدها في العالم، ورغم ذلك كانت إجابته منصفة وأكثر إدراكًا لمشاركة الأمم الكبرى في الحضارة، يقول التوحيدي: "الأمم عند العلماء أربع: الروم، والعرب، وفارس، والهند، وثلاثٌ من هؤلاء عجم، وصعبٌ أن يقال: العربُ وحدها أفضل من هؤلاء الثلاثة".
ويرتبط بالتطبيع الحضاري، فكرة القابلية للتطبيع، وهي فكرة تناولها المفكر "مالك بن نبي" عام 1948م في كتابه "شروط النهضة" عند حديثه عن القابلية للاستعمار، فتلك القابلية هي التي تبرر الخنوع والخضوع؛ لذا كانت القوى الاستعمارية تعمل على تحويل تلك القابلية للاستعمار والاستتباع إلى ما يشبه الحقيقة والاعتقاد في أذهان الشعوب المغلوبة والمستضعفة.