<p>هل هناك علاقة بين الدين والشعائر الدينية وبين تحقيق الترابط في المجتمع أم أن الدين من عوامل تفكيك المجتمعات؟</p>
يظن البعض أن الدين هامشي في حياة المجتمعات تكويناً وقوةً واستمراراً، رغم أن التاريخ يثبت أن الدين كان ملازماً لنشأة المجتمع، ولا يغيب عنه إلا ويظهر بصورة أخرى، وكما يؤكد علماء الأنثروبولوجيا أن "العالم عرف مدناً بلا أسواق، ومدناً بلا أسوار، ولكنه لم يعرف مدناً بلا معابد"؛ فالدين حاضر دوماً في المجتمع وفي ترابطه وتماسكه.
الشعائر والتماسك الاجتماعي
وتساهم الشعائر والعبادات الدينية في تحقيق التماسك الاجتماعي، خاصة الشعائر التي تتسم بحضور واسع في الممارسة من الأفراد، مثل فريضة الصيام، التي يتشارك الغالبية العظمى من الناس في أدائها، حيث يصومون في وقت واحد، ويفطرون في وقت واحد، ويتلاحمون في الصلوات المختلفة خاصة التراويح، ويتعاطفون بينهم ويتراحمون، كل ذلك يحقق التماسك الاجتماعي، ويعيد تذكير المجتمع بروابطه التي تشده بعضًا إلى البعض، والتي تكاد تضعف بسبب ضغوط الحياة الحديثة، وحالة التشتت التي يعاني منها الغالبية العظمى من الناس بسبب سرعة الحياة، وما فرضته التكنولوجيا الرقمية من شواغل جديدة على الإنسان، حيث دفعت تلك الشواغل الناس نحو الانعزال والفردانية المفرطة، كل ذلك أدى إلى نوع من الهشاشة في التماسك الاجتماعي.
ومن هنا تأتي دور العبادات والشعائر الجماعية مثل الصيام لترميم تلك الحالة من الهشاشة، وتزيل الكثير من مسببات الضعف، وتعيد تذكير الناس بروابطهم وعناصر تماسكهم وقوتهم والأهم التذكير بهويتهم التي تعيد صقل وجودها في نفوس الناس، ولا شك أن الهوية من أهم عناصر القوة والصلابة في المجتمعات.
والتماسك الاجتماعي هو درجة من الاحساس بالترابط يشعر بها الفرد تجاه المجموع والمجتمع، ولا يحدث ذلك إلا إذا أحس الفرد بالثقة تجاه ذلك المجتمع، وينظر علماء الاجتماع إلى التماسك الاجتماعي على أنه درجة من درجات جودة الحياة داخل المجتمعات، وأحد المصادر المهمة في قوتها وازدهارها، فهو يخفض الصراعات والانشقاقات إلى مستوياتها الدنيا، من خلال خلق أهداف مشتركة للفرد والجماعة.
تكشف قوة التماسك الاجتماعي عن وجود قواسم مشتركة من التفاهم وتحديد الأهداف والغايات بين الأفراد، والتماسك الاجتماعي له وجه اجتماعي وآخر سياسي وثالث تنموي، فهو يكشف عن بناء قيم مشتركة داخل المجتمعات، ويكشف كذلك عن وجود حالة من الرضا والتفاهم في المجتمع قائمة على أسس واضحة، أبرزها العدل؛ لذا يُعرفه البعض بأنه "رغبة أعضاء المجتمع في التعاون مع بعضهم البعض من أجل البقاء والازدهار"، وهناك من يُعرفه بأنه "قدرة المجتمع على ضمان رفاهية جميع أعضائه، وتقليل التفاوتات وتجنب التهميش".
وهناك خمسة محددات أساسية للتماسك الاجتماعي، هي: العمل من أجل رفاهة جميع أعضاء المجتمع، ومحاربة الإقصاء والتهميش، وخلق الشعور بالانتماء، وتعزيز الثقة، ووجود فرص للحرك والارتقاء داخل المجتمع.
أما علاقة الدين بالتماسك والترابط الاجتماعي فهي علاقة أصيلة وفاعلة وناجزة ولا يمكن إنكارها، فتسارع الحداثة انعكس على التماسك الاجتماعي، خاصة في مجال الأسرة التي أثرت الحداثة عليها وأضعفت تماسكها إضعافاً كبيراً، وقللت من دورها ووظيفتها في بناء الفرد وربطه بمجتمعه وغايات ذلك المجتمع وأهدافه، فتم استبدال الكثير من العلاقات التراحمية داخل الأسرة إلى علاقات تعاقدية محكومة بالقانون قبل الرحمة والمسئولية الأخلاقية والإنسانية.
ومن الناحية الاقتصادية، يلعب الدين دوراً مؤثراً في تحقيق التماسك والترابط الاجتماعي من خلال مجموعة من التشريعات التي تنشر الرحمة بين الأفراد، وأبرزها الزكاة بشتى أنواعها والتي تواسي الفقير والمحتاج وتنزع الأحقاد والحسد والغل من بين أفراد المجتمعات وطبقاته، وهذا يخفض العنف والجريمة والكراهية التي ينتجها الجشع الرأسمالي واكتناز المال، وحرمان الفقير من حقه في هذا المال.
ونشير هنا إلى حقيقة مهمة، وهي أن التماسك الاجتماعي ليس حالة اقتناع عقلي، ولكنه ممارسات على الأرض، وتلك الممارسات هي التي تنشئ التماسك، ولعل هذا ما أشار إليه الفيسلوف الإنجليزي "برتراند راسل" بقوله: ""التماسك الاجتماعي ضرورة، ولم تنجح البشرية بعد في فرضه من خلال الحجج العقلانية فقط".