<p>لماذا يتخذ الفكر المادي والفلسفة موقفًا معاديًا من مفهوم الغيب؟ وما أهمية الإيمان بالغيب في الرؤية الفلسفية؟</p>
"كل من يجهل بالوجود، سوف يسري جهله إلى أمهات المسائل الفلسفية، ومن يدرك حقيقة الوجود سوف تسري معرفته إلى قضايا الفلسفة وأسئلتها الكبرى"، تلك هي القاعدة الذهبية في فهم أهمية الغيب بالنسبة للإنسان؛ فالغيب هو أعظم أسئلة الوجود، لأنه سؤال عن الله سبحانه وتعالى.
كان الشاعر الفارسي فريد العطار، يقول: "كيف يُدرَك الله بالاستقراء وليس كمثله شيء"، ومن ثم فليس بالضرورة أن تكون الغيبيات قابلة للفهم للجميع؛ لأنها تحتاج إلى الإيمان، وهذا ما لا يؤمن به الفكر المادي، فالاعتماد المفرط على الحواس يقيد عقل الإنسان، ويضيق آفاق الكون أمامه.
الغيب.. لا يغيب
سؤال الغيب لا يغيب عن الإنسان؛ لأن الجانب المتعالي أصيل في الإنسان، وقوة الإنسان الحقيقية خارج إطاره المادي الطيني، فإذا تم إلزام الإنسان بإطاره المادي، فقد شُطب أهم ما يميز الإنسان.
والإيمان بالغيب هو ما يميز العقل الديني عن العلماني؛ فالإيمان بالغيب يصوغ المنظومة المعرفية التي تحدد الرؤية الكونية والكلية والوجودية للإنسان والمعرفة، فإذا انتفى الإيمان بالغيب اختلت تلك المنظومة.
الغيب قضية كبرى ودائمة في الفكر الفلسفي، وليس مسألة عابرة، يستطيع أن يقفز عليها الإنسان ثم يكمل طريقه، فهي قضية مركزية، تنتظم حولها حياة الإنسان، اعتقادًا، ومعاشًا، ومصيرًا؛ لذا سعى الإنسان منذ القدم لإقامة علاقة مع الغيب، الذي يعتبر الإله المسألة الكبرى فيه، والتي تتفرع عنها كل القضايا.
لكن مع ظهور الأفكار والتيارات التنويرية والحداثية والمادية، على مدار القرون الأربعة الماضية، ظهرت محاولات لتغير هوية الدين، في أهم قضية مركزية فيه وهي الغيب، ساعية إلى نقل المركز من الخالق سبحانه إلى الإنسان، ومن السماء إلى الأرض، فغيرت الحداثة وما بعدها مفهوم الغيب، وسعت إلى إنشاء لاهوت أرضي منبثق من المادة والمحسوس، ينشئ غيبًا مرتبطًا بالمادة.
وتعد قضية الألوهية أهم مسائل الغيب، لكن مع الحداثة والفكر المادي انتقلت المركزية إلى الإنسان بدلا من الإله، فأخذ الغيب يتلاشى من الفكر المادي والحداثي، وباتت قضية الإيمان بالغيب تناقض مفهوم العلم، وصار التخلي عن الإيمان بالغيب -وفق المادية- مقدمة ضرورية للتقدم العلمي.
وقد تحول مفهوم الغيب في بعض تيارات الفكر الحداثي إلى أن يكون حالة نفسية معنوية يمكن دراستها من منظر تاريخي أو أنثروبولوجي، ولا يعدو-وفق تلك الرؤية- أن يكون خواطر نفسية وليست إيمانًا بالخالق سبحانه، وما يتفرع عن الغيب من إيمانيات.
من الأزمات التي يثيرها شطب الغيب من حياة الإنسان، وضع الإنسان في حيز المادة الضيق الفاني، وإلغاء آفاق الروح الرحبة التي تجعل الإنسان يسمو فوق هيكله الطيني، وعلى المستوى السلوكي والاجتماعي، فإن شطب الغيب هو تغييب للعمق الإيماني في الجانب الأخلاقي، وعندها تنمو الرغبات الضارة والمدمرة والخاطئة؛ لأن حياة الإنسان باتت مقتصرة على الإشباع والمتعة واللذة، والتمتع إلى آخر لحظة، لأنه ليس بعد الحياة حياة.
ومن القصص المعبرة في هذا المضمار، أن صانع السيارات الأمريكي الشهير "هنري فورد" سأل مديرًا جديدًا في شركته: "ما هدفك؟".
فقال له المدير: "الربـح.. بالطبع!".
فخلع "فورد" نظارة ذلك المدير، ولصق بها عملة فضية، ثم أعادها إلى وجه الرجل، وقال له: "إذا كان هدفك الربح، فهذا كل ما ستراه... ولذلك لن ترى الناس، ولا الله، ولا أزهار الربيع، ولا حتى منتجاتنا الفاخرة... وأنا أشفق عليك".
فالمادي المقطوع الصلة بالغيب لن يرى أعظم الأشياء وأهمها في هذا الكون، وستقتصر رؤيته على اللحظة العابرة فقط، لذا فالكفر بالغيب مرض يصيب الروح قبل أن يتحول إلى أزمة عقلية مزمنة.
ومن القوة التي يبثها الإيمان بالغيب هو أنه يقاوم الخرافات والأساطير، فلا يسمح لها أن تستقر في الوجدان ولا العقل، فالخالق سبحانه، قصر علم الغيب على نفسه، وبالتالي فالبشر جميعًا متساوون أمام علم الغيب، لذلك جاءت الآية الكريمة: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا}.
وهنا يمكن أن نفهم الرؤية القرآن في رفض الجحود بالغيب؛ فالإيمان بالغيب، من صفات المؤمنين، كما جاء في الآية الثانية في سورة البقرة، {يؤمنون بالغيب}، فهذا الإيمان هو ما يتفرع عنه كل قضايا الإيمان والسلوك والمعاملات، ولهذا ورد الغيب في القرآن في حوالي ستين موضعًا، وتعدد الغيب الذي تحدث عنه القرآن، بدءًا من الخالق سبحانه، والآخرة، والملائكة، وصروف القدر، والمستقبل.
وفي تفسير "البحر المحيط" لأبي حيان الغرناطي يقول: "الإيمان بالغيب لازم للمكلف دائما"، ومن النادر أن يوجد من ينكر الغيب كلية، ولكن تتفاوت درجات الإيمان بالغيب، حتى الماديين والمؤمنين بالمحسوس فإن لهم غيبًا مرتبطًا بالمادة.
في كتابه "روح الدين" يقول الفيلسوف المغربي "طه عبد الرحمن": "لقد وُجد الإنسان في عالم الغيب روحًا مجردة قبل أن يوجد في عالم الشهادة روحًا مجسدة"، وأنه يمكن الاتصال بين الإنسان والغيب بما أسماه "الاستبصار"؛ فالروح لها معارفها ووسائلها في الاستدلال، يقول الشاعر والفيلسوف الأمريكي رالف والدو إمرسون: "كل ما رأيته علمني أن أثق في الخالق فيما لم أره".