<p>من الملاحظ على بعض المجتمعات الخليجية الإنفاق ببذخ على الأمور الاستهلاكية من أكل وشراب وملبس، ونحن في بداية شهر رمضان المعظم الذي تزداد فيه هذه المظاهر رغم أنه شهر عبادة وصوم وقرب من الله تعالى. نريد توجيه بعض النصائح لهذه الأسر والعائلات التي تقدم حاجات الجسد الاستهلاكية على حاجات الروح. مع العلم أن الكثير من الأطعمة التي يتم تجهيزها تكون نهايتها صناديق القمامة.</p>
يبدو لي هذا السؤال وقد لامس وجعًا نشعر به جميعًا.. وجعًا لا علاقة له بالثراء أو الفقر.. الوفرة أو الندرة، ما الذي حدث لنا كشعوب مسلمة وجعلنا نتهافت على الاستهلاك على هذا النحو؟ والموجع حقًّا أن يرتبط هذا الاستهلاك بشهر الصبر والصوم والارتقاء بالروح والأمر يستحق المناقشة على أكثر من سياق؛ فقضية الاستهلاك والإسراف قضية أصبحت ذات بعد عالمي، إنها إحدى ركائز الرأسمالية التي تعتمد على فكرة التوسع في الأسواق والتوسع في المبيعات، وترى في غير ذلك خطرًا وركودًا يهددها لذلك فهي تستخدم كل أسلحتها وقواها الناعمة حتى نكون أسرى لمثل هذه الثقافة بصورة طوعية تمامًا.
ثقافة الإعلان
إن ثقافة الإعلان أصبحت مرتبطة بعلم النفس الاجتماعي بطريقة وثيقة؛ فالإعلان الناجح هو الذي يلامس مشاعر الإنسان العميقة.. المشاعر الفردية والجمعية في آن واحد..
الإعلان الناجح ليس هو ذلك الذي يعدد مميزات المنتج، وإنما ذلك الذي يشعرك بالاحتياج إليه ويرفع لديك هرمون المكافأة في الدماغ (الدوبامين) عند الحصول عليه ويجعلك تشعر بالانتماء للجماعة التي تشترك كلها في اقتناء هذه السلعة فتتحول السلعة إلى هوية خاصة للجماعة تحقق لها الإشباع، وبغياب السلعة يكون هناك اهتزاز نفسي حقيقي
هذا هو الإعلان الناجح في الفلسفة الرأسمالية.. فلسفة السلعة والتسليع.. هذه الفلسفة العالمية استطاعت احتواء كثير من الشعوب الإسلامية، فهي تتسم بمرونة كبيرة، ومن حيث الظاهر لا تصطدم بالدين بطريقة مباشرة بل ويمكن أن تدافع عن نفسها أن كثيرًا من السلع تستخدم لخدمة الدين ذاته، وأن الرأسمالية ليست مسئولة عن سوء التطبيق الفردي!
حمى التسوق
الفلسفة الرأسمالية الخادعة حيث تمتزج الأهداف بالتطبيق والأفكار بالممارسات الحياتية تم تحويلها لثقافة استهلاكية رمضانية ذات نكهة خاصة ومميزة! فصورة المائدة الرمضانية العامرة بأطايب الطعام والشراب بتلك الكميات الكبيرة الهائلة من حيث الكم، الضخمة المتنوعة من حيث الكيف أصبحت رمزًا أو أيقونة لرمضان، فمن يملك المال كالمجتمعات الخليجية والطبقات الأكثر ثراء في باقي المجتمعات العربية يحققها بأدق تفاصيلها، ومن لا يملك المال يحاول قدر ما يستطيع حتى لو وصل الأمر حد الاستدانة.. فبدلا من الصدقة يستدين للإنفاق حتى لا يكون في طبقة أقل أو حتى لا يشعر على المستوى النفسي أنه يفتقد حاجة أساسية (هكذا يتوهم العقل)، وأيضا تحت ضغط هرمون المكافأة في الدماغ الذي سيمنحه جرعة من الشعور بالسعادة بمجرد الشراء..
فالشراء يتحول لهدف قائم بذاته.. حالة حمى التسوق أو هوس التسوق يمكن رؤيتها بالعين المجردة قبيل أيام من الشهر الفضيل خاصة في الأسواق الكبيرة، وهي حالة عاطفية تجيد استثمار نقاط قوة الرأسمالية، فأغان فلكورية في الخلفية وأدعية وابتهالات بأصوات أشهر المشايخ تضفي أجواء روحانية على السلع المادية وكأنها تنزع عنها ماديتها وتجعلها تعيش في ظلال رمضان فيخرج المتسوق وهو في حالة من النشوة وكأنه كان في عبادة ما وليس في أحد الأسواق التجارية..
هذه الحلقة لا تنكسر لأن المستهلك المسلم الذي اشترى كثيرًا لن يقوم بتخزين ما اشتراه (كثير من السلع تفسد بالفعل) فتستمر الخدع العقلية.. جائعون وبحاجة لطعام شهي.. لدينا دعوات على الإفطار ولا بد أن نكرم الصائمين.. سوف نتصل على إحدى الجمعيات الخيرية التي سوف تقوم بتوزيع الباقي على العمال والمحتاجين وتعم الفائدة، وهكذا يقوم العقل باختراع كثير من المبررات التي تمنع الشعور بالحرج النفسي أو الديني.
اختراق العقل
خلاصة القضية في رأيي أن الفلسفة الرأسمالية في ثوبها الاجتماعي نجحت في اختراق العقل المسلم وقامت بدغدغته حتى يقدم التبريرات العقلية لسلوكيات تتناقض بشكل واضح وصريح مع الفلسفة الإسلامية عمومًا ومع فلسفة الصيام وما فيها من معاني الصبر على وجه خاص.
لقد تحولت الفكرة الاستهلاكية لعادة لدى شعوبنا.. والعادات لها قوة كبيرة جدَّا خاصة عندما لا تكون مجرد عادة فردية وإنما عادة جماعية تجمع بين قوة العادات وقوة الجماعة وأعرافها؛ لذا فالحل لا بد أن يكون بنفس قوة المشكلة أو أكثر.. فكل الحلول التلفيقية الصغيرة لن تجدي نفعًا إلا كمسكنات بسيطة كتقليل الكميات للنصف واستخدام أطباق أصغر حجمًا والتعاون المسبق مع الجمعيات الخيرية لتوزيع الفائض، فما لم نقم بتفكيك الآصرة القوية والعلاقة العميقة التي ربطتنا بالطرح الرأسمالي في نظرته للعالم فسنظل أسرى لمثل هذه السلوكيات والعادات التي تفقدنا ديننا بالتجزئة إن جاز التعبير.
مساران للتغيير
في أي رحلة لتغيير عادات خاطئة دائما ما يكون هناك مساران لكل منهما أهمية خاصة به وبينهما تقاطعات عديدة، أعني المسار الفردي للتغيير والمسار الجماعي له، وما يملكه الفرد منا هو المسار الفردي، والخطوة الأولى للتغيير تبدأ بقوة المعرفة، فالفهم والإدراك يولد طاقة التغيير، هذه الطاقة تتحول لسلوك وممارسة، وبالتأكيد الأمر ليس سهلاً فالممارسة بحاجة للتذكير وللتكرار ولكثير من المقاومة، ومن الوارد جدًّا أن يحدث ضعف أو انتكاسة والعودة للممارسات المعتادة المألوفة خاصة مع ضغط المجتمع، وبالتالي نكون بحاجة لمزيد من الطاقة كي نبدأ مرة أخرى، والحقيقة أنه بتكرار المحاولات تتحسن الممارسات وتصبح أكثر سهولة هذا بوجه عام..
إنما عندما نتحدث عن سلوك مرتبط بالدين.. مرتبط بالإسلام.. مرتبط بعبادة الصيام فهنا يوجد دافع هائل وطاقة رهيبة مستمدة من رب العالمين، وهي طاقة قادرة على تحدي هذه العادات النكدة التي أثمرتها الرأسمالية في بلادنا، وقادرة على كشف الزيف العاطفي الذي تتمتع به هذه العادات، بل وقادرة تمامًا على اختراق المسار الفردي لتؤثر في المسار الجماعي للأمة إذا تم إتقان استخدام أدواتها.