<p>الغالبية تتحدث عن البركة في رمضان في العبادة والرزق والسعي... والسؤال هل يعترف الفكر الفلسفي المادي بالبركة أم أنه يجحدها كما جحد وجود الله؟</p>
شهر رمضان شهر مبارك، هكذا يعتقد المسلمون، ولا يشكون في بركة هذا الشهر، ولا يشكون في بركة القرآن الكريم، لكن الفكر المادي له شأن آخر، فهو لا يؤمن إلا بالمحسوس، ولا يستمد معرفته إلا مما خضع لملاحظته ومشاهدته وتجاربه، أما ما وراء المادة، فهو ينكر وجوده، ولا يعترف به، وهو ما حرم الإنسان المعاصر من عطاء الغيب الوفير.
في كتابه "فيض الخاطر" حاول الأديب الكبير أحمد أمين أن يبحث عن مفهوم البركة، ولعل ما دفعه إلى ذلك شواهد الحياة، فقد ترى شخصًا يمتلك المال القليل ولكنه يعيش حياة سعيدة، ويكفيه هذا المال هو وأسرته، يقول "أمين": (وقد عجبت إذ رأيت بعض علماء اللغة يعودون بهذه المعاني كلها إلى المعنى الأساسي وهو «برك البعير إذا أناخ في موضع فلزمه»، ثم نقله العرب من هذا المعنى إلى معنى النمو والزيادة، أو معنى السعادة، كأن البعير إذا أناخ استراح ونما وسعد).
البركة استمداد من الغيب
هنا يطرح السؤال حول سر البركة، وهل يمكن للعقل المعتمد على الحواس في إنتاج واكتساب المعرفة، أن يفهم البركة، أو يخضعها للملاحظة والقياس؟
الحقيقة أن البركة تستمد وجودها من عالم آخر غير عالم المادة، تستمد وجودها من عالم الغيب، هذا العالم الذي لا يعترف الفكر المادي بوجوده ولا عطاءاته، رغم أن شواهد الحياة تؤسس للإيمان بالغيب، وتعد البركة أحد الشواهد الأساسية التي يلمسها الإنسان في حياته وحياة الآخرين، لكن البعض يعاند ويرفض الاعترف بوجودها؛ لأن الاعتراف بوجودها هو اعتراف بالله سبحانه وتعالى، وشعور يفيض في القلب امتنانًا له سبحانه وتعالى.
والحقيقة أن البركة اعتقاد ومفهوم معروف لغالبية البشر على اختلاف أديانهم ولغاتهم، ومن التساؤلات التي تثيرها البركة، هل هي مادية: بمعنى أن هناك زيادة مادية حقيقية في الأشياء، أم أنها روحية، بمعنى: أنها تعبر عن نوع الرضا والسعادة من الإنسان مع النعمة؟
للبركة تعريفات كثيرة، منها الزيادة والنماء، و"ثبوت الخير الإلهي في الشيء"، ومن ثم فهي مرتبطة بالاعتقاد؛ لأن من يعتقد أن النماء والخير من الله سبحانه، لا بد أن يستشعر الامتنان لربه، ولذلك جاء في حديث البخاري "البركة من الله". ومعاني البركة المتعددة، تتفق في معنى كبير وهو أنها سر وعطاء إلهي.
البركة لا تقتصر على الفرد فقط، ولكنها قد تعم المجتمعات فتشيع فيها الازدهار والرفاه، وتخلق البيئة الصالحة للحياة الطيبة بمفهومها الشامل، المادي والمعنوي، وراحة البال وكفاية الموارد للاحتياجات والانتقال من حياة الكفاف إلى حياة الكفاية والوفرة المقترنة بالبعد الداخلي المتعمق بالرضا والسعادة، والمشبع بتوفر الحاجات، والبيئة الآمنة والنفس المطمئنة، والوئام والسلام الاجتماعي.
ومع هذا فإن الفكر المادي ينكر البركة اعتقادًا ومفهومًا، بسبب جحوده للغيب، مدعيًا أنها من "الخرافات" ولا يمكن قياسها، ولا تستطيع مؤشرات الاقتصاد أن تتاثر بحلول البركة في المجتمعات.
لكن باعتبار أن البركة قادمة من عالم الغيب، فحتى تُرى آثارها لا بد أن يكون هناك إيمان بالغيب ابتداء؛ فالعين المغمضة الكليلة لن ترى الضوء المبهر، أما الأدلة المادية التي تؤكد تأثير البركة في المجتمعات، تذهب الرؤية القرآنية إلى أن إنفاق المال في سبيل الله، وفي وجوه الخير يجعل الأفراد والمجتمعات أهلا لحلول البركات.
أما من حيث التحليل الاجتماعي فإن هذا الإنفاق، الذي يراعي كفاية الفقير، ويتأدب بالآداب والأخلاق في الإنفاق، فيبتعد عن المن والأذى، ويبدأ بأولي القربى والجيران والدوائر القريبة، فإن ذلك يخفض الصراعات والجريمة في المجتمع، ولا يهدر طاقات المجتمع في ارتكاب الجريمة أو مكافحتها، التي تستنزف الإنسان والاقتصاد.
ونلاحظ أن المجتمعات الرأسمالية التي ينصرف كل فرد إلى ذاته بعيدًا عن رسالته، يتكاثر فيها حجم الجرائم؛ فمثلا الولايات المتحدة يوجد فيها 2.2 مليون شخص خلف السجون أي ما يقارب من 1% ، و4.5 مليون شخص تحت المراقبة والملاحظة، ولك أن تتخيل ما تخصصه الدولة من رجال شرطة وسجون من أجل القبض على هؤلاء واحتجازهم ومراقبتهم، والموارد الهائلة الضائعة والمهدرة.
والواقع أن الفكر المادي حجاب كثيف يحجب الوجود عن الإدراك الإنساني، لكن فقدان البصر لا يعني عدم وجود الأشياء، والعمى ليس دليلاً على غياب النور، وما فوق العقل من قضايا الاعتقاد لا يعني أن الغيب غير موجود؛ فالبركة المتخفية في المادة، تلفت الانتباه للغيب ولحقائق الوجود المتعالية، فالمعنى الذي خلفها، هو أن هناك إلهًا للكون بيده المنح والعطاء، فيجب أن ينصرف قلب الإنسان وعقله للخالق سبحانه، فيشكره على نعمه، ويتمسك بأوامره.
والبركة هي ظهور الغيب في عالم المادة، وهذا التجلي جاء ليبدد الإيمان بالمادة والسبب كسبيل وحيد للنماء والخير والكثرة، وليؤكد أن قدرة وعطاء السبب للإنسان تكون أقل بكثير مما يهبه الغيب؛ فالاعتقاد بوجود البركة يلفت الإنسان إلى الخالق سبحانه باعتباره هو المنعم، وهنا يتعمق الإيمان.
ومن ناحية أخرى، فإن مفهوم البركة باعتباره حلولا للغيب في عالم المادة، يجعل الإنسان غير مكتف بالسبب كسبيل للوصول إلى النتيجة أو الغاية، ولكن يؤمن بأن هناك قوة خارقة قادرة على المنح والوهب وجبر النقص، وزيادة القليل وتكثيره، هذا الإيمان يلفت القلب إلى الغيب لفتًا قويًّا، يجبره من خلال دليل مادي أن يؤمن ويمتن للخالق سبحانه، فيرى يد الغيب المتخفية بالعطاء تبدو متجلية في الواقع.