<p>الشعائر الدينية كيف تؤثر في تكويننا الفكري وفي بناء الهوية للمجتمع؟</p>
قد لا يدرك البعض أهمية الشعائر الدينية خاصة صيام شهر رمضان في بناء الهوية، وتحقيق التماسك الاجتماعي، والوقاية من الأمراض النفسية والسلوكية؛ فالشعيرة في حقيقتها هي التجلي السلوكي والأخلاقي الظاهري للقيم الاعتقادية والإيمانية في الواقع، ويشكل أداءها تجديدًا لترابط الأفراد والمجتمع بإيمانهم ومعتقداتهم.
الشعائر تماسك وحماية
يشير علماء في دراسات الأعصاب والدماغ إلى أن الشعائر (الطقوس) تعمل على تنشيط مناطق الدماغ المرتبطة بالمكافأة، وأن أداء الشعائر يمكن أن يساهم إطلاق النواقل العصبية (الدوبامين والسيروتونين) أثناء الطقوس، فيؤدي إلى الشعور بالرفاهية والترابط الاجتماعي والسعادة، وقد يكون للطقوس تأثير تنظيمي على الجهاز العصبي اللاإرادي، مما يقلل من التوتر ويعزز الاسترخاء، ولعل نتائج هذه الدراسات يذكرنا بالفرحتين التي أشار إليهما الحديث النبوي للصائم.
ومن الناحية الفكرية والهوياتية هناك مقولة مهمة للفيلسوف الروسي "تولوستوي" تؤكد أنه "عندما يبدأ الناس في فقدان معتقداتهم الدينية، فغالبًا ما يكون أول شيء يتوقفون عنه هو الالتزام بالطقوس الدينية"؛ لذا نجد أن القدسية والتعظيم الذي يبديه الكثير من المسلمين لشعيرة الصيام، يكشف أن الهوية الإسلامية ما زالت قادرة على إلهام الغالبية من الجماهير، وقادرة على إحداث التغيير والإصلاح، فالرهبة التي يشعر بها المجتمع تجاه تعدي الناس على شعيرة الصيام بالإفطار، تؤكد أن الشعيرة ذات تأثير في بناء الهوية، وأنها تجاوزت ذات الفرد لمحاولة صبغ المجتمع بقيم الاعتقاد والإيمان.
وحسب علماء الأنثربولوجي، فالشعائر لها دور مركزي في جميع أنشطة الحياة، فهي تجسيد لعملية الدمج بين "المقدس" وبين النظرة للكون ونظام القيم، وكاشفة عن الإيمان، كما أنها تعطي وجهًا ثقافيًّا واجتماعيًّا للدين، ولها وظائف في تحقيق التماسك الاجتماعي وبناء الشعور بالوحدة، وانتشال الفرد من فرديته الضيقة إلى رحابة الجماعة، فتكافح مشاعر الأنانية والفردانية، كما أنها دوما مشبعة بالمعنى والرمزية.
ومن هنا فالتمسك بأداء الشعائر وبخاصة الصيام في رمضان، هو نوع من بناء سياج قوي حول العقيدة، وهو وسيلة لاحتواء المشاعر وتوظيفها، وخلق قدر من التماسك الاجتماعي من خلال تحديد أهداف وغايات المجتمع، وهو ما يظهر في إفطار المسلمين في وقت واحد، وصومهم في وقت واحد، كذلك وجود حتى تشابه في الكثير من الأطعمة التي يفطرون عليها مثل التمر، وكأن الجميع يعاد دمجهم في إطار من الرؤية الجماعية القوية الفاعلة ذات القدرة التغيرية، ولا شك أن ذلك من غايات شعيرة الصيام في الجانب الاجتماعي والهوياتي.
ولذلك نجد أن هناك محاولات من الاتجاهات الكارهة للإسلام، للتهوين والتقليل من أهمية شعيرة الصيام، والسعي لربطها ببعض القيم السلبية، مثل زيادة الاستهلاك والإنفاق في رمضان، ولا شك أن الإسراف شيء غير جيد، لكن المتعمق في حجم الإنفاق في رمضان سيجد أن جزءًا كبيرًا للغاية منه ينفق في الجانب الخيري على الفقراء والمساكين وغير القادرين، فمئات الملايين مما يسمى بـ"شنطة رمضان" أو"كرتونة رمضان" توزع على الفقراء، تحقيقًا للتكافل والتماسك الاجتماعي، لذا فإن الشعيرة تحقق غرض التماسك الاجتماعي بهذا الإنفاق الخيري العظيم المبارك، ومن هنا نستطيع أن نفهم النقد المؤلم الأسود لبعض المظاهر السلبية وتضخيمها بصورة تطغى على الوجه المشرق لشعيرة الصيام
وتشير الكثير من الدراسات الاجتماعية والنفسية والدينية إلى أن الشعيرة تعيد بناء المجتمع وتربط أفراده بهويتهم الدينية، وتعيد تذكيرهم بأصولهم وانتماءاتهم، خاصة إذا كانت الشعيرة تُمارس على نطاق واسع، وتزداد قوة مع تحولها إلى حالة ثقافية للمجتمع، بمعنى أن تُوجد لها فنونها وبهجتها وتقاليدها في الطعام والشراب والاحتفال، كل ذلك يُمكن الشعيرة من ترسيخ جذورها في المجتمع، وهو ما يصعب اقتلاعها أو حتى مواجهتها؛ فالشعيرة هنا جمعت بين الفرضية الدينية وبين قوة التقاليد، فعلماء الاجتماع يؤكدون أن للدين قدرة على إضفاء المعنى على الحياة، ومع وجود التدين تحضر الشعائر أو الطقوس، فلا دين بلا شعائر.
الشعائر –كما يعرفها علماء الاجتماع والأنثربولوجي- نظام موحد للتعبير عن المعتقدات، كما أنها ممارسة، أي فعل واضح يكشف عن الإيمان بتلك المقدسات، فالشعائر لها أماكن وأوقات وتوقيتات، ومسلكيات وكلمات لأدائها؛ بل حتى أزياء ومأكولات، أي أنها نظام حياتي ومعاشي شامل قادر على إعطاء وجه ثقافي للدين والمعتقد، وبالتالي تصبح ممارسة الشعيرة قادرة على بناء شعور جماعي بوحدة الهدف والغاية وتوجيه السلوك، فالشعائر تخرج من الحيز الفردي الذاتي إلى المجال الاجتماعي والعام لتبني شعورًا بالوحدة من خلال الدين، والدين ليس شأنًا فرديًّا، ولكنه مؤسسة اجتماعية، وقوة الدين تتمثل في قدرته على بناء عالم ثقافي شامل لأتباعه، أي يلهمهم كيف يعيشون ويمارسون حياتهم، وكيف يحلمون ويفكرون.
ويرى علماء الاجتماع أن الناس عندما يحتفلون بالأشياء المقدسة، فإنهم في الأساس يحتفلون بقوة مجتمعهم، واختفاء الاحتفاء هو إعلان بتراجع قوة المجتمع وتلاشيه؛ لذا فإبداء الشعائر هو إعلان عن قوة المجتمع ومنعته وتمسكه بأهدافه وغاياته التي شكلها الدين وأرسى دعائمها.