<p>ما حكم المسابقات المعاصرة خاصة التي تجري عبر التلفاز أو غيرها من وسائل التواصل المعاصرة؟</p>
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
المسابقات في اللغة مأخوذة من السبق وهو التقدم والغلبة.
وأما في الاصطلاح: فهو عقد يكون بين فردين أو فريقين في مجال علمي أو عسكري أو رياضي من أجل معرفة السابق من المسبوق.
وهي جائزة في كل أمر مباح لا يترتب عليه فعل محرم ولا تعطيل واجب، وألا يكون العوض في المسابقات من المتسابقين حتى تنتفي شبهة المقامرة، وأن تخدم المسابقات مقصدًا من مقاصد الشرع.
وقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسابق بين أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ على الخيل، والإبل، وإصابة الأهداف في الرماية، ويشجعهم على ذلك بالمال وغيره، انطلاقاً من عموم قوله ـ تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60].
وقد اتفق العلماء على جواز المكافأة أو الجائزة في التسابق إذا كان على أدوات القتال؛ لِمَا صح من قوله ـ صلى الله عليه وسلم: "لا سَبَقَ إلا في خُفٍّ أَو نَصْلٍ أَو حَافِرٍ"، والسّبَقُ بفتح الباء: الجائزة، ولكنهم اختلفوا في الجائزة على التسابق في غير أدوات القتال، والصحيح جوازها ما دام في أمر مشروع كالمسابقات الرياضية، والعلمية؛ لأن من شأن هذه الأمور وأمثالها من الأمور المشروعة تحقيق معنى القوة، التي يجب أن يتصف بها المؤمن وتكسبه الخيرية والأفضلية، لما صح من قوله ـ صلى الله عليه وسلم: (المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ المُؤْمنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ).
وقد استحسن الفقهاء أن تكون هذه الجائزة من الدولة، أو من هيئة، أو شخص غير المتسابقين، فإن كان من بعض المتسابقين دون بعض جاز ذلك؛ لكن إذا كانت الجائزة من جميع المتسابقين فإن جمهور الفقهاء يرون منع ذلك، إلا إذا دخل بينهم ما يسمونه بالمحلل، وهو شخص، أو ناد لا يدفع شيئًا، وإذا ربح أخذ الجائزة، وإذا خسر لم يخسر شيئًا، محاولة من هؤلاء الفقهاء لتجنب شبهة القمار.
ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ـ رحمهما الله ـ ذهبا إلى جواز ذلك، وأنكرا فكرة المحلل هذه؛ لأنه شخص أو نادٍ مثلاً يأخذ إذا ربح، ولا يخسر شيئًا إذا خسر، وقالا: "إن هذا ظلم لا تأتي الشريعة الإسلامية بمثله؛ لأن من قواعد الشريعة الإسلامية أن الغنم بالغرم، والغرم بالغنم. فمن يتحمل عبء الخسارة عند التأخر يجب أن يحصل على الجائزة عند السبق والتفوق، ومن لا يتحمل في الخسارة لا يحصل على شيء من المكافأة".
لكن الذي يحدث هذه الأيام لا يمت إلى موضوع المسابقات التي اختلف حولها الفقهاء بصلة، فالذي يحدث أن عددًا من القنوات الفضائية أو مواقع الإنترنت أو غيرها تطالعنا كل يوم بمسابقة جديدة، غالبا ما تكون الأسئلة التي ترد فيها تافهة يعرفها كل الناس ولكنها تشترط لإرسال الإجابة عن هذه المسابقة الاتصال برقم معين يكون ثمن المكالمة من خلاله أكثر من المكالمات العادية، وفارق التكلفة تقتسمه الشركة المنظمة لهذه المسابقة مع شركة الاتصالات بنسب متفق عليها.
وفي البداية قد يستسهل المشترك قيمة المكالمة لكن الشركة المنظمة تدخله في دوامة لا تنتهي فكلما دفع مبلغًا ولم يحصل على شيء دفع مرة أخرى حتى يعوض الخسارة، ويظل يلهث وراء هذا السراب الخادع حتى ينتهي كل ما يملك، فإما أن يحصل على المليون فيعوض الخسارة وهذا يحدث بنسبة ضئيلة جدًّا، وإما أن يعود ناقمًا على من فاز وعلى هذه الشركة التي سلبته ماله دون أن يحصل على شيء.
هذا ببساطة تصور المسألة قبل الحكم عليها، ولا يخفى على أحد الآثار السلبية التي تترتب على مثل هذه المسابقات من إشاعة روح التواكل والتعلق بالوهم وحب الثراء السريع دون بذل وقت ولا جهد كما تعودنا من خلال السنن التي وضعها الله في هذه الحياة، وأنه لا بد من الصبر والمثابرة لجمع المال بالطرق المشروعة.
وقد تنوعت هذه المسابقات فتارة ترتبط بشراء سلعة من السلع وتارة أخرى بمسابقة ثقافية، وغير ذلك من الصور المتنوعة لكنها تدور حول معنى واحد هو جمع المال الكثير من الناس الطامعين في الثراء السريع ثم إعطاء الفتات من هذا المال لبعض المتسابقين، وأخذ الباقي وهو يتجاوز الملايين إلى المليارات لجيوب الشركات المنظمة والمشرفة على هذا القمار.
والشريعة حرمت كل معاملة تشتمل على الغرر أو الميسر والمقامرة، وجاءت لرفع الضرر عن الناس جميعًا فلا ضرر ولا ضرار.
أما المسابقات فقد أخذت صورًا متعددة وأنواعًا مختلفة لكنها تشترك جميعًا في المقامرة وبيع الوهم للناس.
قرار مجمع الفقه بشأن بطاقات المسابقات
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في دورته الرابعة عشرة بالدوحة دولة قطر من 8 حتى 13 من ذي القعدة 1423هـ الموافق 11- 16 يناير/2003م، بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع بطاقات المسابقات وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، قرر ما يلي:
أولاً: تعريف المسابقة:
المسابقة هي المعاملة التي تقوم على المنافسة بين شخصين فأكثر في تحقيق أمر أو القيام به بعوض (جائزة) أو بغير عوض (جائزة).
ثانيًا: مشروعية المسابقة:
1- المسابقة بلا عوض جائزة مشروعة في كل أمر لم يرد في تحريمه نص، ولم يترتب عليه ترك واجب أو فعل محرم.
2- المسابقة بعوض جائزة إذا توافرت فيها الضوابط الآتية:
أ) أن تكون أهداف المسابقة ووسائلها ومجالاتها مشروعة.
ب) ألا يكون العوض (الجائزة) فيها من جميع المتسابقين.
ج) أن تحقق المسابقة مقصدًا من المقاصد المعتبرة شرعًا.
د) ألا يترتب عليها ترك واجب أو فعل محرم.
ثالثًا: بطاقات كوبونات المسابقات التي تدخل قيمتها أو جزء منها في مجموعة الجوائز لا تجوز شرعًا؛ لأنها ضرب من ضروب الميسر.
رابعًا: المراهنة بين طرفين فأكثر على نتيجة فعل لغيرهم في أمور مادية أو معنوية حرام، لعموم الآيات والأحاديث الواردة في تحريم الميسر.
خامسًا: دفع مبلغ على المكالمات الهاتفية للدخول في المسابقات غير جائز شرعًا، إذا كان ذلك المبلغ أو جزء منه يدخل في قيمة الجوائز؛ منعًا لأكل أموال الناس بالباطل.
سادسًا: لا مانع من استفادة مقدمي الجوائز من ترويج سلعهم فقط -دون الاستفادة المالية- عن طريق المسابقات المشروعة؛ شريطة ألا تكون قيمة الجوائز أو جزء منها من المتسابقين، وألا يكون في الترويج غش أو خداع أو خيانة للمستهلكين.
سابعًا: تصاعد مقدار الجائزة وانخفاضها بالخسارة اللاحقة للفوز غير جائز شرعًا.
ثامنًا: بطاقات الفنادق وشركات الطيران والمؤسسات التي تمنح نقاطًا تجلب منافع مباحة، جائزة إذا كانت مجانية بغير عوض، وأما إذا كانت بعوض فإنها غير جائزة لما فيها من الغرر.
توصيات
يوصي المجمع عموم المسلمين تحري الحلال في معاملاتهم ونشاطاتهم الفكرية والترويحية والابتعاد عن الإسراف والتبذير.
والله تعالى أعلى وأعلم