هل الأخلاق نسبية؟ وتأثير ذلك على المجتمع؟

<p>هل الأخلاق نسيبية أم لها قدر من الثبات بحيث تصلح أن تكون معيارًا يجتمع حوله البشر؟ وهل مسألة نسبية الأخلاق ترتبط بالحداثة التي ابتعدت عن الغيب؟</p>

نسبية الأخلاق من القضايا المهمة في حياتنا الدينية والفكرية والثقافية، فهي مفتاح لفهم الكثير من انحرافات الرؤية وزيغ الفكر، تحت ستار العقلانية والحرية، فتجد بعض هؤلاء قد ينحاز للمحتل الصهيوني، تحت شعارات الإنسانية، وتجده يترحم على هؤلاء المغتصبين في المؤتمرات وتجد عينيه تمتلئان بالدمع أمام الناس دون خجل.

 

غياب المطلق

 

النسبية الأخلاقية ترى "عدم وجود حقائق مطلقة في الأخلاق، وأن ما هو صواب أو خطأ أخلاقيًّا يختلف من شخص لآخر، ومن مجتمع إلى آخر".

 

وللأخلاق أهمية في تمييز الإنسان عن الحيوان، كما يؤكد الفيلسوف المغربي "طه عبد الرحمن" أن الأخلاق وليس العقل هي ما يميز بين الإنسان والبهيمة، والأخلاق ذات أهمية في الرؤية الفلسفية وفي بناء المجتمعات وفي حياة الإنسان، فالأخلاق ليست شيئًا بسيطًا يمكن التحلي به أو التخلي عنه بسهولة، ولكنها نتاج اعتقاد عميق، كما أنها منبثقة عن رؤية للوجود، وذات تأثير فعال في التماسك الاجتماعي؛ لذ فإن أي خلل في النظام الأخلاقي ما هو إلا نتاج أزمة اعتقاد، وسيتبعه ارتدادات مجتمعية، ولعل من أخطر ما يواجه الأخلاق هو الادعاء بأنها نسبية.

 

ومسألة "نسبية الأخلاق" ذات حضور قديم في الفلسفة اليونانية القديمة، وفي فلسفات أخرى، لكن مع التنوير الأوربي أصبحت أكثر جدلاً وشيوعًا، وتأثيرًا على الإنسان والمجتمع، ويؤكد بعض الكتاب الغربيين أن النسبية الأخلاقية ورفض المطلق يشكلان حاليًا العقل الحديث؛ فالنسبية الأخلاقية تحولت إلى ما يشبه الحقيقة المُسلَّم بها، في ظل تغييب الإيمان بالخالق سبحانه وتعالى.

 

ولعل الادعاء بنسبية الأخلاق هو في الحقيقة ادعاء بغياب المطلق أو تعدده، وادعاء بأن ذات الإنسان هي معيار الحقيقة، وما دامت الذات متعددة فإن الأخلاق متغيرة ولا تعرف فكرة الثبات وإنما تخضع لرؤية الشخص ومصالحه وضغوط زمانه ومكانه، وحينها نصبح أمام فوضى أخلاقية.

 

النسبية الأخلاقية والفلسفة: من الفلاسفة اليونانيين القدماء الذين تحدثوا عن نسبية الأخلاق، المؤرخ "هيرودوت" في القرن الخامس قبل الميلاد، فرأى أن المجتمعات المختلفة لها عادات مختلفة وأن كل شخص يعتقد أن عادات مجتمعه هي الأفضل، وأن أي مجموعة من العادات الاجتماعية ليست أفضل أو أسوأ من أي مجموعة أخرى، أما الفيلسوف السوفسطائي "بروتاجوراس" فهو صاحب الادعاء بأن الإنسان هو مقياس كل الأشياء.

 

ورغم أن فكرة النسبية الأخلاقية ظهرت في القرن الخامس قبل الميلاد، فإنها ظلت كامنة لقرون حتى تجددت مرة أخرى مع التنوير الأوروبي، وبخاصة في القرن التاسع عشر، حيث أخذت تظهر أفكار النسبية الأخلاقية من جديد، والتأسيس الفلسفي لها، وكذلك تنزيلها في الواقع من خلال سياسات على الأرض، ولعل ذلك بسبب تراجع حضور الدين في القرنين الأخيرين، ونمو النزعة المادية، وكذلك الظاهرة الاستعمارية في القرن التاسع عشر.

 

ومن رواد النسبية الأخلاقية إبان التنوير الفيلسوف الهولندي "سبينوزا" (ت: 1677م) والذي رفض أفكار اليهودية والمسيحية التي تقول بوجود الخير والشر، ورأى أن المبادئ الأخلاقية مشروطة ثقافيًّا، وهذا يعني أن ما يعتبر صحيحًا أخلاقيًا في ثقافة ما قد لا يكون صحيحًا في ثقافة أخرى، وكذلك الفيلسوف "ديفيد هيوم" (ت: 1776م) والذي نفى أن الأخلاق لها أي معيار موضوعي.

 

انتقادات النسبية الأخلاقية: يدعي أنصار النسبية الأخلاقية، أن اتجاههم هذا يعزز التسامح في المجتمع والعالم، لكن تلك الحجة تؤخذ عليهم؛ لأن وجود قيمة متجاوزة للثقافات والمجتمعات مثل التسامح تعني وجود أخلاق لا تعرف النسبية وتتمتع بصفة الإطلاق، والقدرة أن يجتمع عليها البشر، وهو ما يهدم تلك النسبية في الأخلاق.

 

كذلك فهي استخدمت النسبية الأخلاقية، لتبرير الاستعمار والعبودية واستغلال الشعوب المستضعفة؛ فالاستغلال يصبح مشروعًا وأخلاقيًّا من وجهة نظر القوى الاستعمارية وهو ما تم ممارسته بالفعل من المستعمر الأوروبي.

 

ونشير هنا إلى انتقاد مهم للغاية وجهه المؤرخ البريطاني "بول جونسون" في كتابه "العصر الحديث: العالم من العشرينيات إلى التسعينيات" والصادر عام 1983م، والذي ربط فيه بين النسبية الأخلاقية وبين كبار الديكتاتوريين والطغاة في العصر الحديث مثل "هتلر" و"ستالين"، فهؤلاء روجوا دمويتهم وطغيانهم وفق نظرية النسبية الأخلاقية، التي بررت جرائمهم.

 

والحقيقة أن الضمير هو صوت الله في الإنسان، وغياب الإله من النفس الإنسانية، يعني فساد الفطرة، ليحل مكانه الشهوة التي هي صوت الجسد، أو المنفعة أو الخوف، ولذلك كما يؤكد المفكر علي عزت بيجوفيتش أن العقل لا يستطيع أن يولد منظومات أخلاقية، فيقول: "إن محاولة إقامة الأخلاق على أساس عقلي لا تستطيع أن تتحرك أبعد مما يسمى بالأخلاق الاجتماعية، أو قواعد السلوك اللازمة للمحافظة على جماعة معينة، وهي في واقع الأمر نوع من التنظيم الاجتماعي، نوع من الإجراءات والقوانين الخارجية، كما أن التحليل العقلي للأخلاق يختزلها إلى أنانية وتضخيم للذات"، فالأخلاق تحتاج إلى مصدر متعال، ومتجاوز للذات الإنسانية حتى تتمتع الأخلاق بصفة الإطلاق، ولهذا كان الدين ضرورة في البناء الأخلاقي، وضرورة لمواجهة ما يسمى بنسبية الأخلاق.