<p>الحمد لله الذي هدانا إلى صراطه القويم، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد أفضل صلاة وأزكي تسليم، وبعد. أشكركم على ما تقدمونه من خدمات وتوجيهات مباركة لشباب المسلمين؛ فبارك الله فيكم، وسدد خطاكم. لا أعرف كيف ولا من أين أبدأ، ولكن حملني ما أجد في نفسي من ضيق صدر وحيرة من أمري على أن أكتب إليكم؛ فأنا بحاجة إلى مشورتكم وبحاجة إلى أن أخرج ما بداخلي؛ لعلي أجد الراحة والخلاص مما يؤرقني؛ فحملي أنهكني وما عدت أقدر عليه. أنا في الـ36 من عمري، منَّ الله علي بكثير من الأخلاق والصفات التي لم يهبها لكثير من الناس، أحمده ربي وأشكره عليها. أعيش وسط فتن لا يعلمها إلا الله، أشدها على نفسي النساء، جاهدت بكل ما أوتيت من قوة وصبر، ودعوت، وتضرعت لله أن يقيني شرهن؛ فاستجاب لي ربي ووقاني بلاءهن فلم أقع يوما في معصية رغم كثرة سبلها، لكن إلي متى فما أنا ألا عبد ضعيف... في وقت مضي كانت ظروفي المادية عسيرة، وصرفت فكري ونظري عن الزواج لما أعلم له من تبعات ومسئولية وأمانة رغم إلحاح أهلي علي، اجتهدت في العمل والدعاء والتضرع لله أن يبدل حالي بأحسن منها. ودارت السنون، جاوزت الثلاثين، وبدأت أحوالي تتحسن، وأول ما سعيت إليه أن أحيي سنة نبيي وأكمل نصف ديني، توكلت على الله ودعوته أن يرزقني الزوجة الصالحة، وتقدمت لعدد منهن بعد المشاورة والاستخارة، ولكن لكلٍ ظروفها وحججها وأحوالها، ولم يكتب لي التوفيق في مسعاي. بلغت الـ وأحسست أن سنوات شبابي وعطائي بدأت تنفلت مني رغم أنفي. صارت أحوالي المادية جيدة، وزادت الفتن من حولي، وصار إحساسي بالحاجة إلي السكينة والطمأنينة أكبر من أن يحتويه صدري ؛ فما أنا إلا مخلوق على الفطرة، قاومت وصبرت وواصلت سعيي، ولكن كالعادة لم أوفق. آخر مرة كانت مند حوالي شهرين، أشار علي أهلي بفتاة نعرف أهلها ويعرفوننا، توكلت على الله واستخرته وتقدمت إليها، وافقت في البداية وأحسست براحة كبيرة، لكن بعد شهر ونصف جاء قولها بأنها لا تريد. لا أخفي عليكم، وقع في نفسي هم وكرب شديد لم أكن أجده في تجاربي العديدة السابقة. صرت كئيبا، كثير القلق، شارد الفكر، ميالا للعزلة، قليل النوم والأكل، عصبي المزاج، أحيانا لا أحتمل حتى كلام أقرب الناس إلي. حالي هذه دفعتني للكتابة إليكم لعلي أجد الراحة والخلاص؛ فأنا تعب منهك. أشيروا علي بربكم؛ فكأسي فاضت وصدري مثقل، ما عاد يحتمل والفتن تحاصرني من كل جانب، ولا أدري بعد هذا أي السبل سأسلك. أشيروا علي وادعوا لي. اعذروني على إطالتي، وأشكركم على سعة صدركم لي. وفقكم الله ودمتم ذخرا لهذه الأمة.</p>
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أخي عبد الله، ونسأل الله عز وجل أن يفرج عنك ما أنت فيه من هم وغم وكرب.
لقد قرأتك رسالتك أكثر من مرة، وتوقفت أمامها وأنا لا أدري من أين أبدأ معك؛ فأنت نفسك لم تكن تدري بم تبدأ في توصيف حالتك، وأخيرا آثرت أن أبدأ معك بنصيحة نبوية غالية، هي علاج نبوي ناجع ممن لا ينطق عن الهوى، وإليك قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أصاب أحدا قط هَمٌّ ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحدا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي.. إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرجا".
فهلا جربت أخي الحبيب في بداية رحلتنا معا هذا العلاج حتى تخفف عن صدرك ما عليه من ضيق وهمٍّ، ربما يكون عائقا عن التفكير، وحاجزا دون الوصول لقرار مفيد. أراك الآن قد هدأت نفسك، واطمأن بالك؛ فهيا بنا نقف معا في طريق استجلاء مشكلتك..
التمسوا الرزق بالنكاح
من عظمة الله عز وجل الذي خلق الإنسان ويعلم ضعفه وفقره أنه لم يتركه للأسباب المادية، ولكنه -سبحانه وتعالى- جعل حياته مبنية على الأسباب الأرضية والمعينات العلوية؛ فجعل للرزق أسبابا، ربما يراها الإنسان بعقله القاصر أنها سبب في منع الرزق أو نقصانه.
ألم تسمع قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة أقسم عليهن، وأحدثكم حديثا فاحفظوه، قال: ما نقص مال عبد من صدقة..." [الترمذي]؟ فعقولنا القاصرة تقول إن المال ينقص بالصدقة، ولكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أقسم على عكس ذلك؛ إذ البركة في الرزق أفضل من كثرته.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة كلهم حق على الله عونه: الغازي في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد التعفف"؛ فالله عز وجل أوجب على نفسه إعانة الناكح الذي يبغي العفاف، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده الضعفاء؛ حتى لا يتركهم فريسة للهم والغم والكرب ومصارعة فتن النساء وغيره مما تعاني منه أنت الآن.
إذن فنحن في حاجة لتغيير بعض المفاهيم والقناعات الخاصة بأمور النكاح مثل:
• عدم التفكير في الموضوع بتفكير مادي بحت، ولكن لا بد من استصحاب التوكل على الله في كل شيء؛ فالمؤمن يسير في هذه الدنيا في كل أموره بجناحي العمل والتوكل، لا غنى لأحدهما عن الآخر. فإذا استشعر العبد إعانة الله له فإنه سيقدم على هذا الأمر وهو واثق بالله ومطمئن لوعده، مع الأخذ بكل الأسباب والحسابات المادية الممكنة.
• على الأزواج أن يدركوا أن الزواج ليس فقط تكاليف ومسئوليات وأعباء فقط، ولكنه أيضا تعاون وألفة ومحبة وإعانة على لأواء الطريق؛ ففرق بين من يكابد مشاق الحياة وحيدا، ومن له زوجة تشاطره همومه، وتكون له عونا وظهيرا.
• على الأهل التعاون والعمل على تذليل العقبات التي تواجه الشباب في طريق زواجهم؛ فعلى أهل الزوجة ألا يبالغوا في طلباتهم ويشددوا على الخاطب، وعليهم أن يعلموا قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "أعظم النساء بركة أيسرهن مئونة" [مسند أحمد].
وقفات مع حالتك
إن مشكلتك أخي الكريم أنك انطلقت في هذه الحياة بتصورات مسبقة، يبدو أنها ناتجة عن احتكاك بذوي تجارب مؤلمة؛ مما جعلك تنفر من الزواج حتى تتحسن حالتك، ولكن حينما تحسنت حالتك تفاجأت بأن العمر قد تقدم بك وأن "سنوات شبابي وعطائي بدأت تنفلت مني رغم أنفي"، حتى انتصف العقد الرابع من عمرك.
وحينما فكرت في الزواج لم توفق في الوصول لمن تشاركك حياتك؛ حتى تقدمتَ لواحدة ولكنها بعد شهر ونصف جاء قولها بأنها لا تريد؛ ليصدمك صدمة صرت بعدها "كئيبا، كثير القلق، شارد الفكر، ميالا للعزلة، قليل النوم والأكل، عصبي المزاج" على حد قولك، لم يا أخي الحبيب كل هذا؟ إن هذه الروح التي تحياها لا تساعد على التفكير والوصول لقرار سليم؛ فهيا بنا نقف معا بعض الوقفات:
• حتى تستطيع التفكير والوصول لقرار سديد عليك أن تستعيد ثقتك في نفسك وفي ربك، وتطرد عنك الحالة النفسية السيئة التي وضعت نفسك فيها دون داعٍ، والتي لا تؤدي إلا إلى مزيد من الهم والكرب؛ فجدد حياتك بالإيمان، وزينها بالثقة واليقين وحسن التوكل على الله.
• وصولك سن السادسة والثلاثين لا يعني أنك لن تجد من ترضى بك؛ فهذه السن في بعض البلاد سن طبيعية في الزواج، وهناك الكثيرات ممن يرضين بهذا؛ فسنوات الشباب والعطاء ما زالت مستمرة؛ فانفض عنك غبار اليأس، وسارع بالاستفادة منها.
• ذكرت أن كل من رفضنك كان لهن أعذارهن وحججهن، وهذا لا يعني أن فيك عيبا أو نقصا ما، إلا آخر فتاة؛ فهي قد وافقت ثم رجعت في كلامها بعد شهر ونصف، وأظن أن هذا هو الذي أوصلك إلى حالتك تلك، وأنت غير محق في هذا؛ ففسخ الخطبة أو العقد أو حتى الطلاق لا يعني بالضرورة أن في أحد الطرفين عيبا، ولكنه يعني عدم التوافق بينهما، ولو أن كل واحد منهما ارتبط بطرف آخر لتوافق واستقر معه؛ فهوِّن على نفسك.
• غالبا ما تكون شكوى تأخر الزواج من النساء؛ خشية ألا يطرق بابهن أحدا بعد عمر معين. والعجيب أن الشكوى هذه المرة جاءت من الرجل!! أخي الحبيب إن البلاد العربية تشكو من مشكلة العنوسة، وهو ما يعني انتظار الكثير من السيدات لمن يطرق بابهن، سواء ممن مضى بهن قطار العمر، أو من طُلقن أو ترملن؛ فهلا بحثت فيهن عمن ترضى بك، وستجد من تناسبك وترضى بها خاصة مع حالتك المادية الميسورة؛ فاستعن بالله ولا تعجز.
• إخفاقك في الزواج لا يعني نهاية الدنيا، ولا يعني الفشل الذريع؛ فالحياة أوسع من ذلك، ونِعَم الله علينا لا تُعد ولا تُحصى؛ فتقوَّ بنجاحك، وانطلق من نقاط القوة واجبر بها نقاط الضعف.
• احمد الله عز وجل على الصفات الحميدة التي وهبها لك، وحافظ على تمسكك بحبل الله في مواجهة الفتن، واحذر أن يستغل الشيطان ظروفك التي تمر بها، ويلبّس عليك، ويزين لك التخلي عن هذه الفضائل، واعلم أنك الآن أحوج ما تكون لله عز وجل؛ فتقرب منه أكثر واعلم أنه سبحانه وتعالى أرحم بك من نفسك.
• إن أخوف ما أخافه أن تتعجل في أمرك وترضى بمن لا تناسبك في الأخلاق والقيم والالتزام؛ فتندم بعد ذلك؛ فأنصحك أن تتروى، ولا بأس إن توقفت عن التفكير في هذا الموضوع لفترة زمنية وجيزة تستعيد فيها ثقتك في نفسك؛ حتى تعاود التفكير بصورة طبيعية بعيدة عن التسرع أو الانفعال أو العصبية أو التوتر.
• اعلم أنه على قدر تحملك للفتن والصبر عليها سيكون أجرك عظيما، وثوابك عند الله كبيرا؛ فاستعن بالله ولا تعجز.
أخيرا أخي الحبيب، أوصيك بكثرة الدعاء واللجوء لله تعالى، ونحن ندعو الله أن يفرج عنك ما أنت فيه، وأن يرزقك الزوجة الصالحة التي تعينك على أمر دينك ودنياك.