<p>البخل كيف نظر إليه المفكرون وفلاسفة الأخلاق؟ وهل هو مشكلة سلوكية أم إيمان بالمادية؟</p>
البخل ليست صفة عابرة أو سلوكًا سيئًا أو طرائف نقصُّها عن شخص يعشق بالمال، ولكن البخل ما هو إلا رأس جبل جليدي لصفات سيئة تتمثل في منع الخير بشتى صوره عن الآخرين، مع القدرة على نفعهم وإفادتهم. أما ما يخفيه البخل فهو أعظم من الناحية الاعتقادية والأخلاقية، وكما يقول الأديب الفرنسي "بلزاك" في إحدى رواياته: "البخلاء لا يؤمنون بالبعث؛ إن الحاضر كل شيء بالنسبة لهم"، والحاضر هو الأمان في ظلال المال.
ومن يتابع الطلاق في العالم سيلحظ أن البخل يشكل أحد الأسباب الرئيسية وراءه، فتشير الإحصاءات الأمريكية إلى أن المال يقف وراء 40% من حالات الطلاق، ولا شك أن البخل حاضر كأحد الأسباب، وكما تقول الحكمة: "فالقبضة المغلقة على المال هي أيضًا قلب مغلق".
المعرفة علاج للبخل
احتفى الأدب بأخبار البخلاء، فهناك أشعار تصفهم في الجاهلية، لكن كتاب البخلاء" للجاحظ من أشهر الأعمال التي خلّدت قصصهم ونوادرهم، وقد كتبه الجاحظ (المتوفى 225هـ) في آخر حياته، لكن عمق الشخصيات التي عرضها تكشف أن هؤلاء كان أغلبهم بخلاء في كل شيء في كلماتهم ومشاعرهم ورحمتهم، وكانوا بخلاء حتى على أنفسهم، كما كتب عن البخيل الأديب الفرنسي "موليير" مسرحيته "البخيل" الصادرة عام 1668م.
أما أسباب البخل، فهي متعددة منها ما يتعلق بالتنشئة، ومنها ما يتعلق بالسمات الشخصية، لكن هناك أسبابًا أخرى ترتبط بالجانب الاعتقادي والمعرفي، وكما يقول أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: "وأيُّ داءٍ أَدْوأُ مِن البُخْلِ"، وكذلك علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- كان يقول: "إِذا اجْتَمَعَتْ الآفاتُ فالبُخْلُ شَرُّها"، وكذلك أبو الفرج بن الجوزي في كتابه "صيد الخاطر" كان يقول: "شر البلاء حب المال".
الأديب "مصفى لطفي المنفلوطي" في كتابه "النظرات" ذكر من أسباب البخل، "سوء الظن بالله" وعدم رسوخ العقيدة في قلب البخيل، ويقول في ذلك: "ذلك أنَّ المُتَدَيِّنَ إذا أخذت عقيدة القضاء والقدر من نفسه مَأْخَذَهَا رسخ في قلبه الإيمان بأن لله سبحانه وتعالى عينًا ساهرة على عباده الضعفاء، فهو أرحم من أن يُغفِلَ شأنهم ويَكِلَهُم إلى أنفسهم، ويُسْلِمَهُم لصروف الليالي وعاديات الأيام، فلا يَلَجُّ به الحرص على الجمع، ولا يزعجه الخوف من البذل. وعلى العكس منه ضعيف الإيمان ضعيف الثقة بواهب الأرزاق ومُقسِّم الحظوظ والجدود؛ فهو لسوء ظنه به لا يزال الخوف من الفقر نُصْبَ عينيه حتى يصير البخل ملكةً راسخةً فيه".
كما ذكر المنفلوطي من الأسباب "سقوط الهمة" فيقول: "نشأ الإنسان عالي الهمة طموحًا إلى المعالي مُحبًّا للذكر الحسن والثناء الجميل، سَهُلَ عليه أن يبذلَ في سبيل ذلك كلَّ ما يستطيع بَذْلَهُ مِن ذات يده أو ذات نفسه... فمن لساقط الهمة ضعيف النفس بدافعٍ يدفعه إلى بَذْلِ المال على مكانته من قلبه وامتزاج حبه به؟! أيدفعه حب الثناء وهو لا يشعر بلذته؟ أم خوف المَذَمَّةِ وهو لا يتألَّم منها ولا يتذوَّق مرارتها؟ أم سعادة الحياة وسعادة الممات، وهو لا يفهم للسعادة معنًى غيرَ ما فهمه الزِّبْرِقَانُ بنُ بدر حينما قنع على لسان الحُطَيْئَة من المكارم بلقمة يمضغها، وَحُلَّةٍ يلبسها؟".
ويمكن إجمال السببين في أن معيارية القيم مهتزة في شخصية البخيل، لتتلاشى مع طول أمد البخل لتهبط مكانها منظومة قيم أخرى تمجد المال واكتنازه، وهو ما يجعل حركة البخيل تدور حول المال والأنانية وحب الذات، والقدرة على تحمل شظف العيش وربما الإهانة والنبذ المجتمعي دون التخلي عن المال وكأنه شيء مقدس يطوف حول المال ويخضع لتعاليمه، لذلك كانت الرؤية الإسلامية تعتبر "البخل رأس كل خطيئة"؛ لأن البخل لا يعني إلا الخضوع للمادية المتمثلة في اكتناز المال، كذلك غياب المركزية الأخلاقية التي تحدد السلوك القويم للبخيل.
أما الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين" فناقش قضية البخل وقبحها وأسبابها وعلاجها، وقسّم البخل لدرجات واعتبره من المهلكات، لكن الأهم أنه رأى أن البخل مرض قلبي بسبب تمكن حب المال من القلب، فيقول: "اعلم أن البخل سبب حب المال. ولحب المال سببان:
أحدهما حب الشهوات التي لا وصول إليها إلا بالمال مع طول الأمل، فإن الإنسان لو علم أنه يموت بعد يوم ربما أنه كان لا يبخل بما له.
ثانيهما: أن يحب عين المال؛ فمن الناس من معه ما يكفيه لبقية عمره إذا اقتصر على ما جرت به عادته بنفقته وبتفضل آلاف وهو شيخ بلا ولد ومعه أموال كثيرة ولا تسمح نفسه بإخراج الزكاة ولا بمداواة نفسه عند المرض بل صار محبًّا للدنانير عاشقًا لها يلتذ بوجودها في يده وبقدرته عليها، فيكنزها تحت الأرض وهو يعلم أنه يموت فتضيع أو يأخذها أعداؤه، ومع هذا فلا تسمح نفسه بأن يأكل أو يتصدق منها بحبة واحدة، وهذا مرض للقلب، عظيم عسير العلاج لا سيما في كبر السن، وهو مرض مزمن لا يرجى علاجه".
ولذلك رأي الغزالي أن من أقوى علاجات البخل هو العلاج المعرفي، أي تغيير عقلية ووجدان وقلب البخيل من عشق المال والخضوع لسلطانه إلى القدرة على مفارقته فيما أمر به الشرع وفيه النفع، فيقول: "فإن علاج البخل بعلم وعمل، فالعلم يرجع إلى معرفة آفة البخل وفائدة الجود، والعمل يرجع إلى الجود والبذل على سبيل التكلف، ولكن قد يقوى البخل بحيث يعمي ويصم فيمنع تحقق المعرفة فيه، وإذا لم تتحقق المعرفة لم تتحرك الرغبة فلم يتيسر العمل فتبقى العلة مزمنة، كالمرض الذي يمنع معرفة الدواء وإمكان استعماله فإنه لا حيلة فيه إلا الصبر إلى الموت".