<p>أنا شاب عمري 30 عاما، أقيم بمكة المكرمة منذ 3 سنوات، مستوى تعليمي ماجستير، أعزب. الحمد لله الفترة الماضية أقلعت عن التدخين، وامتنعت عن مشاهدة الأفلام الجنسية، وامتنعت عن ممارسة العادة السرية غير مرة واحدة ولمت نفسي كثيرا بعدها، والتزمت بأداء معظم الصلوات جماعة في المسجد وخصوصا صلاة الفجر في الحرم المكي، وأقرأ تقريبا ثلاثة أجزاء من القرآن يوميا، وأراعي الله في عملي على قدر المستطاع، وأحسن من أخلاقياتي ومعاملاتي مع الناس. معذرة على التطويل، ولكن أرجو الاستفسار عن بعض المشكلات التي واجهتني حتى تعم الفائدة: لي صديق يعينني على طاعة الله، ولكني أجد في داخلي غيرة شديدة منه، وأشعر أنه بداخله نفس الشعور.. فكيف لي أن أتغلب على هذا الشعور؟ مع العلم أن هذا الشعور كثيرا ما يتكرر معي خصوصا مع الملتزمين دينيا؛ مما يدفعني إلى اتهامهم – في نفسي - بالرياء وإظهار خلاف ما يبطنون. أعلم أن هذه مشكلة كبيرة بقلبي وأنه يجب أن أعامل الناس على حسب ما يظهر لي وأن أدع الباطن لعلام الغيوب، ولكن هذه هي مشكلتي الثانية. * فأنا دائما ما أحلل تصرفات من حولي، ولا أكتفي بظاهر التصرفات؛ بل أحاول أن أصل إلى ما وراء الظاهر، وكثيرا ما أصيب في تحليلي، وأعتقد أنها موهبة من الله، ولكن تصرفي هذا يشحن نفسي بمشاعر كراهية تجاه الآخرين، وأحاول إظهار هؤلاء الأشخاص الذين يحاولون خداع من حولهم للآخرين؛ مما يسبب الكثير من الحساسيات بين الأشخاص، وأيضًا هذا يدفعني للحديث عن الآخرين في عدم وجودهم. وفي الفترة الأخيرة كرهت هذه الصفة في نفسي، وحاولت كثيرا التخلص منها بأن أشغل نفسي بما يفيدني، ولكن الأمر لا يسلم من بعض التجاوزات، خصوصا أن الاحتكاك في العمل كثير، والمؤامرات التي تحاك في العمل كثيرة، مما يستفزني للرد عليها. * أشعر في قرارة نفسي أنى ظلمت إنسانة كنت خطبتها لفترة ثم انفصلت عنها، ولا أعلم إن كنت محقا في شعوري هذا أم لا، وما هي الطريقة للتكفير عن هذا الذنب؟، باختصار أخبرتكم في استفساري الأول أنى للأسف الشديد زنيت ثم أكرمني الله بالحج، وتبت من هذا الذنب الرهيب، وبعدها أخذت إجازة، وعزمت على الزواج، وعن طريق بعض المعارف تقدمت لهذه الفتاة، وكانت مدة الإجازة قصيرة. وأخبرني أهل الفتاه قبل إتمام الخطبة أنها تعاني من آثار حرق في جسدها في منطقة الصدر، وشعرت بانقباض شديد في صدري، وأحسست أن الله يعاقبني لاقترافي جريمة الزنا في بلده الحرام، ووجدت نفسي أوافق على الارتباط بها عسى الله أن يكفر عني ذنبي، وأقنعت نفسي أن هذه الفتاة هي نصيبي، وغمرتها بكثير من العطف والحب حتى تعلقت بي في وقت قصير للغاية، وحدثت بعض التجاوزات بيننا وكأني لم أتعظ. المهم أني خلال هذه الفترة كنت صادقًا في إقبالي على هذه الفتاة، ولكن بعد سفري مرة أخرى وبعد فترة وجيزة وجدت حسرة وألمًا بصدري، وبت الليالي الكثيرة أبكي، وأصبحت لا أطيق الحديث معها، وأصابني الاكتئاب، ورجعت للتدخين، وأصبت بالكثير من العصبية، ولم أعد أحتمل أن أكمل ما بدأته. ووجدتني أتصل بأهل الفتاة بعد صراع داخلي دام شهور، وأخبرهم أنى لن أستطيع أن أكمل مشروع الزواج، ووقع الخبر عليهم كالصاعقة، خصوصا أني لم أظهر لهم أي شيء مما كان يدور بداخلي، وسألوني عن السبب، وبكل تبجح، وقسوة قلب (اعتقدت أنها صراحة وقتها) أخبرتهم أني غير متقبل لعيبها الجسدي، وحزنت الفتاة كثيرا، وترك هذا فيها ألما رهيبا كما علمت بعد ذلك. أحب أن أذكر أني قبل اتخاذي لهذا القرار كنت تقريبا أقوم معظم الليل، وأرجو من الله أن يلهمني الصواب، وبعد أن تركتها أحسست بمرارة شديدة، ووجدتني أذهب إلى الحرم، وأظل أبكي، وأدعو أن يصبرها الله، وأن يعوضها خيرا مني، وأحسست بمدى الجرم الذي ارتكبته. مضى الآن 0 أشهر تقريبا على انفصالي عنها، وكلما مرت بخاطري أبكي وأدعو لها. بقي أن تعرف أني منذ شهور تقدمت لفتاة أخرى (لم تتم الخطبة)، ويوم ذهابي لمقابلة أهلها حدث لي حرق في ذراعي، وترك أثرا إلى الآن، ولكنه بسيط، ولكنى كلما أراه أتذكر هذه الفتاه، وأحس بمدى ظلمي لها، ومعاقبتها على شيء ليس لها يد فيه، وتمنيت أنى لم أرتبط بها أصلا. آسف للإطالة، ولكن هذا بعض ما يعتري نفسي، وإني إذ أثق في موقعكم فأرجو الرد علي بما يصلح لي قلبي المريض، وما يقربني من ربي.</p>
أهلا بك أخي، لقد سعدت كثيرا بسؤالك، وبكلامك عن تغير حالك للأفضل من إقلاع عن التدخين والأفلام الجنسية، وامتناع عن العادة السرية، ثم محافظتك على الصلاة في جماعة والورد القرآني.. كل هذه أمور إيجابية تستوجب منك شكر الله عليها، وسؤاله أن يديمها عليك، وأن يبعد عنك شياطين الإنس والجن الذين يغيظهم أن يروا عاصيا قد تاب أو بعيدا عن الله قد عاد إلى رحابه؛ فيبدؤوا في نصب الشراك في طريقه ليصدوه.
ولكنني واثق أنك ستجتاز هذه العقبات وستستمر في طريق عودتك لله رب العالمين، خاصة أنك في مكان من أقدس وأطهر الأماكن على وجه الأرض، وأنت الرجل المثقف الذي سار في طريق العلم حتى حصل على الماجستير؛ فإننا نثق في مقدرتك على الاستعلاء بنفسك والترفع عن هذه الرذائل التي لا تتناسب ومستواك العلمي والاجتماعي.
واعلم- أخي الفاضل- أنه إذا كان تحقيق النجاح صعبا فإن المحافظة عليه والاستمرار فيه أصعب منه بكثير؛ فعليك أن تدرك أنك الآن في فترة "نقاهة" تحتاج منك إلى مضاعفة جرعة العلاج وتكثيفها حتى لا تحدث لك "انتكاسة" والعياذ بالله.
أما بالنسبة لتساؤلاتك التي طلبت الرد عليها فإنني أستعين بالله وأقول لك: اسمح لي أن أتكلم عن أول تساؤلين معا لما بينهما من علاقة وترابط يصعب الفصل بينهما، وأن ألخص تعليقي على كلامك فيهما في النقاط التالية:
أولا- من الخطأ حصر الصحبة الصالحة في الشخص الذي وجد معك في العمل أو السكن فقط؛ لأن مفهوم الصحبة الصالحة أوسع من ذلك بكثير؛ فالصاحب الصالح هو كل شخص أو مجموعة تعينك على طاعة الله - عز وجل - وعلى هوى نفسك وعلى كيد الشيطان، سواء كانت هذه المجموعة في السكن أم العمل أم المسجد، وربما تكون هذه الصحبة مؤقتة؛ فتكون في وسائل المواصلات اليومية أو في السفر الطويل. فأنت تسعى إلى من تتوسم فيهم الخير والصلاح فتتقرب منهم ويحدث بينكم ترابط قلبي واجتماعي وتتواصون فيما بينكم بالحق والصبر، وتتعاونون على البر والتقوى. فاحرص على أن تكون لك صحبة صالحة في كل مكان تتواجد فيه.
ثانيا- بالنسبة لموقفك من صاحبك في السكن الذي وصفته بأنه ملتزم ولكن تعيب عليه بعض الأمور.. أقول لك أخي الحبيب:
مشكلة البعض أنه يتعامل مع الملتزمين على أنهم ملائكة "لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون"، فينتظر منهم أن يخرجوا عن طبيعتهم البشرية؛ فلا يقع منهم أي خطأ أو عيب. وهذا فهم غير صحيح فالملتزمين بشر كباقي البشر يخطئون ويصيبون، ويذنبون ويستغفرون.
مع مراعاة أنه يجب عليهم أن يتميزوا عن عوام الناس في هذا الأمر فلا يأتون الكبائر ولا يجاهرون بالصغائر، وإذا غلبتهم أنفسهم ووقعوا في المعصية فعليهم سرعة التوبة والرجوع إلى الله، وليعلموا أنهم قدوة لغيرهم؛ فليراعوا المكانة التي وضعهم الله فيها.
إذن يا أخي عامل الناس كلهم - ملتزمين وغير ملتزمين- على أنهم بشر، واعلم أنه من طلب صديقا بلا عيب بقي بلا أصدقاء.
ثالثا- بالنسبة لغيرتك من صاحبك الملتزم.. فأنت لم توضح لنا سبب هذه الغيرة.. هل هو متفوق عليك في أمر مادي معين؟ وإن كنت لا أظن ذلك، خاصة أنك تشعر أن لديه نفس الشعور، ولكنني وجدتك بعد ذلك تصرح بأن هذه الغيرة تمتد لتشمل كل الملتزمين تقريبا، وأيضا لا أدري ما السبب فيها؟
هل هو شعورك بأنك مذنب وعاص وأن هؤلاء وصلوا لدرجة يصعب عليك الوصول إليها ؟ إن كان هذا هو السبب فأظن أنه سيزول الآن بعض أن بدأت تضع قدمك على طريق الالتزام الآن؛ فالالتزام ليس جماعة أو هيئة معينة، ولكن كل من تقرب لله بفعل أوامره والانتهاء عن نواهيه فهو ملتزم.
أم أن السبب هو أفعال بعض أدعياء الالتزام الذين ضل سعيهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا بأفعالهم المنفرة من الالتزام؟، إن كان ذلك هو السبب فأنصحك هنا ألا تعمم الحكم على الكل بناء على ما وجدته من البعض، وأذكرك بما قلته لك منذ قليل من أن كل بني آدم خطاء -ملتزمين وغير ملتزمين-.
وربما ما لاحظته عليهم من أفعال تراها أنت خطأ لها ما يبررها عندهم؛ فالتمس لهم الأعذار وقدم حسن الظن، وإن لم تجد عذرا فاتهم نفسك بسوء تقدير الموقف وأنك فهمته خطأ؛ فما تراه أنت خطأ وعيبا ربما لا يكون في حقيقته كذلك.
أم أن السبب هو الصورة السيئة التي رسمتها بعض وسائل الإعلام عن الملتزمين؟ إن كان ذلك هو السبب فأدعوك هنا أن تحكم على الفرد - أيا كان- بعمله ومواقفه لا بما يقال وينقل عنه، خاصة في هذا الوقت الذي لا تخفى عليك فيه الحرب الشرسة المعلنة على الإسلام وأهله، والتي من وسائلها تشويه صورة الملتزمين عند عامة الناس بما يُبث من برامج وأعمال درامية تبتعد عن الحقيقة كثيرا.
أما بالنسبة لتحليلك أفعال الآخرين وعدم الاكتفاء بالظاهر؛ فهذه مشكلة، وأظن أنها ربما تكون هي السبب فيما تعاني منه من غيرة من الآخرين، وأنت قد اعترفت بخطئك في هذا الأمر وعددت بعض الآثار السلبية الناشئة من ورائه مثل حدوث كراهية في نفسك لبعض الأشخاص، ووقوعك في غيبتهم وهذا ذنب عظيم.. إذن فأنت مقتنع معي بأن هذا الفعل خطأ لما له من آثار سلبية؛ ولذلك أذكرك بما يأتي:
* مجتمع الصحابة الذي يعتبر أطهر مجتمع وجد على وجه المعمورة لم يخلُ من المنافقين، ومنهم من كان معروفا بذلك وكان الرسول يعرف أسماءهم، ومع ذلك كان هَمُّ الصحابة الأول هو أن يحذر كل منهم أن يكون من هؤلاء المنافقين، ولم يشغل أحد منهم نفسه بتحليل نفسيات الناس وأفعالهم للتمييز بين المنافقين والمؤمنين؛ بل كانوا يتعاملون معهم بما كفله لهم الشرع من واجبات وحقوق؛ فعامل الناس بأفعالهم الظاهرة ودع البواطن والنيات لعلام الغيوب.
* إذا وجدت بعض العيوب والأخطاء من أحد الأشخاص فتذكر الجانب الآخر منه؛ فلن تعدم حسنة له أو عملا صالحا يحسن صورته في ذهنك.
* احذر من مداخل الشيطان في هذا الأمر، خاصة إذا أصبت في بعض تحليلاتك -ربما يكون هذا من باب الصدفة المحضة- فيصيبك العجب بالنفس، وهو ما لاحظته من قولك: "وكثيرا ما أصيب في تحليلي، وأعتقد أنها موهبة من الله".
* إذا حدثتك نفسك بعيوب الآخرين فتذكر عيوبك أنت وانشغل بإصلاحها وتذكر قول الشاعر:
لسانك لا تذكر به عورة امرئ *** فكلك عورات وللناس أعين
وعينك إن أبدت إليك مساوئ امرئ *** فصنها وقل يا عين للناس أعين
فكما تحلل عيوب الناس فإن هناك من يحلل عيوبك وأفعالك.
أما بالنسبة للنقطة الثالثة الخاصة بموضوع خطبتك لهذه الفتاة ثم تركك لها بعد فترة من الخطبة؛ وهو ما تراه أنت ظلما لها.. فإنني أقول لك: لقد ارتكبت بداية في هذه الأمر عدة أخطاء، منها:
* تسرعك في الموافقة عليها من البداية وعدم إعطاء نفسك الفرصة الكافية للاقتناع القلبي والعقلي بها قبل أن تبدي الموافقة عليها.
* أهلها كانوا صادقين وأمناء معك حينما أخبروك قبل الارتباط بالحرق الذي بها، ومع ذلك لم تتروَّ في الموضوع ووافقت عليها.
* موافقتك على هذه الفتاة كان باعتبارها عقابا لك من الله تعالى على ما اقترفته من جرائم في الماضي، وهذا فهم مغلوط؛ فالأصل أن الإنسان إذا أراد الارتباط فإنه يبحث عن الفتاة الملائمة لظروفه ولما يضعه من شروط، فإذا وجد من يتحقق فيها هذه الشروط من خلال التحري الدقيق - دون علمها- فإنه يستخير الله تعالى ويدعوه أن ييسر له الخير حيث كان.
فإذا وجد راحة وتيسيرا للأمور فليسر في الطريق نحو إتمام الزواج. هذا هو الطريق الطبيعي للارتباط، ولكنك أخذت الموضوع على أنه قدر الله الواقع عليك، ولا راد له، مع أنك أنت الرجل وأنت الذي بادرت وتقدمت لهذه الفتاة، ولم تأت لك هي.
* حينما قررت فك الارتباط بهذه الفتاة كنت صريحا جدا في موضع غير مطلوب فيه الصراحة المطلقة مراعاة لنفسية الفتاة وأهلها؛ فكان يمكنك أن تتعلل ببعض العلل الشرعية بعيدا عن موضوع الحرق هذا؛ فمثلا كان يكفيك أن تقول إن هناك بعض الظروف الخاصة التي تمنعك من الارتباط الآن، أو غير ذلك من الحيل التي كان يجب عليك أن تراعي بها نفسية هذه الفتاة بدلا من أن تضيف جرحا نفسيا لجرحها الجسدي.
أما بالنسبة لموقفك الآن فإنني أرى أن تنسى هذا الأمر وتتجاوزه، وتنظر للمستقبل؛ فهذا الجرح الذي أحدثته لا يمكن علاجه الآن، فالزمن جزء من العلاج، وعليك أن تكثر من الاستغفار لنفسك ولهذه الفتاة، وأن تدعو الله أن ييسر لها الخير حيث كان، وأن يرزقها خيرا منك ويرزقك خيرا منها.
فربما كنتما قد تزوجتما، ثم بعد الزواج حدث ما يوجب الانفصال، وربما حدث ذلك بعد الإنجاب مثلا؛ فالأمر حينها كان سيصبح أصعب بكثير مما حدث، فاحمد الله على ذلك، واترك الماضي وراء ظهرك متفاديا سلبياته، ومستفيدا من إيجابياته.
وبالنسبة لما حدث في ذراعك من حرق فهذا قدر من الله، وليس شرطا أن يكون عقابا لك؛ فأنت لم تكن سببًا في الحرق الخارجي لصدر الفتاة، وإن كنت سببا في حرقه داخليا.
وفي النهاية؛
أدعوك - أخي الكريم - لأن تجلس مع نفسك جلسة مصارحة تسأل فيها نفسك ماذا تريد؟، وما هدفك الآن في الحياة؟، وبناء على ذلك حدد أولوياتك واحتياجاتك، وأرى أنه من الضروري لك الآن أن تعجل بالزواج، خاصة وأنت في الثلاثين من عمرك؛ فللزواج أثر كبير في استقرار أمورك إن شاء الله، مراعيا فيمن تختارها أن تكون من مكونات الصحبة الصالحة التي تبحث عنها، "فاظفر بذات الدين تربت يداك".
نسأل الله أن يهدينا وإياك إلى سواء الصراط. وتابعنا بأخبارك...