<p>الإنسان في اللحظة الراهنة يعاني من فراغ روحي عميق.. فهل هناك علاقة بين منجزات الحداثة وتلك الأزمة الناجمة عن ذلك الفراغ؟</p>
الفراغ من الأزمات الكبرى التي تواجه الإنسان المعاصر، وهو انعكاس طبيعي لانتشار المادية والتطرف في الإيمان بالعقل، والفراغ سؤال فلسفي، وأزمة في علم النفس، ومعاناة للكثيرين.
وإدراك الفراغ يعني الإحساس بفقدان المعنى، وهي أزمة لا تكفي لإشباعها كل الوسائل المادية، وإن نجحت في إسكاتها لفترة، لكن إلحاح الفراغ لا ينتهي، فهو جاذب لما يملأه أو يسكته.
في علم النفس تكون مشاعر الفراغ مصحوبة بأمراض نفسية كالاكتئاب والتوتر والقلق والاضطراب، وفي عالم الجريمة فالفراغ مغر بارتكاب الجرائم خاصة الإدمان أو العنف كنوع من الهروب، وفي الفلسفة كان الفراغ بيئة خصبة لنشأة الفكر والفلسفة العدمية وهي فلسفة تشاؤمية شكوكية لا تؤمن بقيمة أي شيء وغايتها التدمير.
الفراغ والوجودية
ورغم أن سؤال مشكلة الفراغ قديم في الفلسفة، فإنه مع الحداثة وظهور الفكر النيشتوي المنسوب إلى المفكر الألماني "نيتشه" والذي كتب "موت الإله" زاعمًا أن التنوير قد قضى على الإله، وأنه لا حاجة للإنسان في وجود الإله، فمع ظهور هذه العبارة عام 1882م، في كتابه "العلم المرح" لم يكتف هذا الإنسان الحداثي بإدارة ظهره للخالق سبحانه وتعالى، ولكن تخطاه إلى ما هو أبشع وأفظع بإعلان موت الإله.
الإنسان المادي يدفع الضريبة القاسية على تلك المقولة، فالفراغ الناجم عن تغييب الإله من الذات الإنسانية ومن واقع الحياة أوجد فراغًا لا ينتهي، ولعل العبارة القوية التي تلخص تلك الحالة البائسة، ما قاله الرسام الهولندي "فان جوخ" إلى أحد أصدقائه: "إنّ الفراغ والتعاسة الداخلية التي لا يُمكن التعبير عنها، جعلتني أستطيع تفهّم الناس الذين يلقون بأنفسهم في الماء".
لم تستطع منجزات الحداثة والتكنولوجية أو إطلاق العنان للغرائز أن تسد هذا الفراغ المخيف، لتظهر العدمية والتشاؤمية، والفلسفة الوجودية التي تتخذ من الإنسان موضوعًا لها، وكان مفهوم الفراغ حاضرًا بقوة في تلك الفلسفة لأنه يرمز إلى غياب المعنى، وكان ما طرحه فلاسفة الوجودية مثل "بول سارتر" و"ألبرت كامو" أن على الإنسان أن يخلق المعنى الخاص الذي يبرر وجوده.
والحقيقة أن الإنسان الذي أنتجته الحداثة، كان ضعيف الصلة بالسماء والإيمان، ولم تنجح الحداثة في ملء فراغه الروحي، إلا من خلال إطلاق العنان لكل ما يحقق النسيان لحيز الإيمان والاعتقاد في النفس، لكن هذا الفراغ جذب المخاوف، بعدما فقدت النفس الطمأنينة التي كان ينشئها الإيمان، وعزا بعض المفكرين الغربيين ذلك الفراغ إلى عدم قدرة الحداثة على تقديم الإجابات عن الأسئلة الوجودية الكبرى، فهذا الإنسان الذي يعاني من الفراغ الوجودي المزمن، لا يريد الاعتراف بحاجته إلى الاعتقاد والإيمان.
يصر البعض على انتقاد الحداثة في آثارها المادية، مثل الاستهلاكية المفرطة، أو استنزاف الموارد، ويتغاضى عن تأثير الحداثة في إنشاء الفراغ الوجودي في النفس البشرية، وحسب المفكر المسلم "سيد حسين نصر" فإن الحداثة قادت إلى الفراغ الروحي، عقب انفصالها عن "المتعالي"، فتكريس المجتمع الحديث لنفسه من أجل العلم والتكنولوجيا فقط، خلق أزمة روحية، وفراغًا روحيًّا وقلقًا وجوديًّا".
تؤدي هذه الحالة من الفراغ، إلى زيادة قيمة ومكانة اللذة في حياة الإنسان، وربما استطاعت الطفرات التكنولوجية والاقتصادية، أن تخلق إشباعًا مؤقتًا لهذه اللذات، لكن بعدما زالت تلك السكرة وحدثت الإفاقة، انتابت الإنسان المعاصر المخاوف والقلق، فمع كل تقدم مادي وعلمي وتكنولوجي يزداد احتكاك الإنسان بالأسئلة الوجودية الكبرى حول الخالق سبحانه وتعالى، والمصير، والموت، وعلى مقدار الفراغ الروحي يكون ضجيج تلك الأسئلة صاخبًا في النفس.
في كتابها "شفاء الفراغ: دليل للرفاهية العاطفية والروحية" تقدم الكاتبة الأمريكية المسلمة "ياسمين مجاهد" مساهمة لعلاج هذا الفراغ الوجودي المزمن، على أرضية إسلامية، و"ياسمين" متخصصة في علم النفس وعلوم الاتصال، والكتاب يقدم مداواة للنفس، وتؤكد أن أبواب السعادة تُفتح من الداخل في أغلب الأحيان، والسعادة منشأها النفس أولاً، فإذا كانت النفس ممتلئة بقوة الإيمان بالخالق سبحانه وتعالى، فإن النفس ستفيض على الوجود سعادة وبهجة، ولا يعني ذلك أن تكون النفس بلا عيوب، ولكن قد يتجاور الخطأ والعيب بجانب الصواب والإلهام، وذلك مصداقًا لقوله تعالى: {وَنَفۡسࣲ وَمَا سَوَّىٰهَا * فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا} هذه الرؤية تمنح الإنسان المؤمن القدرة للتعامل مع آلامه.
تشير "مجاهد" إلى أن شعور الإنسان بالألم، في ظل فراغه الروحي، يجعله يجد نفسه محاطًا بكم كبير من المهدئات المخيفة من الجنس والمخدرات والخمر والمادية والاستهلاكية، لكن حقيقة هذه المهدئات أنها تمثل حالة هروب، فقد يهرب الإنسان من هذا الفراغ إلى الاختباء في مواقع التواصل الاجتماعي، التي تمنحه شعورًا مؤقتًا بالامتلاء والسعادة.
تدعو "مجاهد" ألا نخجل من إنسانيتنا، بل يجب علينا السعى لمحاولة فهم أعمق لأنفسنا والوجود من خلال الإيمان بالله، وأن ندرك أن الجراح قد تكون وسائل للتعلم والمعرفة، وأن الشفاء منها يجعل الإنسان أقوى، وربما يتوافق كلامها مع مقولة "جلال الدين الرومي": "إن الجرح هو النافذة التي يدخل منها النور إليك"، فالحياة ورحلتنا فيها ليست هي الغاية أو النهاية، ولكن لا بد أن يرنو الإنسان ببصره بعيدًا ليبصر الآخرة، فرؤية الآخرة واستحضارها في النفس تكافح الفراغ الروحي وأزماته.