الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : فئات المدعوين
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
57 - رقم الاستشارة : 1982
18/05/2025
السلام عليكم ورحمة الله، أسأل الله أن يبارك جهودكم ويتقبل منا ومنكم.
أنا إمام مسجد صغير في منطقتنا، أرى فيه والحمد لله محبة ووئامًا بين أغلب المصلين. لكن في الآونة الأخيرة، بدأت تظهر بعض الخلافات الطفيفة بين عدد من رواد المسجد الكرام، خاصة من كبار السن وذوي المكانة في مجتمعنا. هذه الخلافات تدور في معظمها حول بعض الأمور التنظيمية والإدارية للمسجد ومرافقه، كترتيب بعض الأنشطة أو اقتراحات لتطوير بعض الخدمات.
الأمر الذي يؤرقني هو أن هذه الخلافات بدأت تأخذ منحى شخصيًا في بعض الأحيان، حيث يصلني كلام عن غيبة ونميمة من بعضهم تجاه البعض الآخر. كل طرف يأتي إليّ يشكو من الآخر، ويطلب مني التدخل أو إبداء الرأي، مما يضعني في موقف حرج للغاية. فهم جميعًا إخوة كرام وأُجلهم وأقدرهم، وفي نفس الوقت لا يمكنني أن أتجاهل هذه المشاحنات لما لها من أثر سلبي على جو المسجد وروحانيته.
فبماذا تنصحونني في هذا الموقف؟
كيف يمكنني أن أتعامل بحكمة وروية مع هذه الخلافات دون أن أحرج أحدًا أو أتسبب في فتنة؟
وما الخطوات العملية التي يمكنني اتخاذها لإصلاح ذات البين وتهدئة النفوس، مع الحفاظ على مكانتي كإمام للمسجد ومحبة وثقة المصلين؟
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ومرحبًا بك أخي الكريم، وأسأل الله أن يبارك فيك وفي خطاك، وأن يفتح لك فتوح العارفين، وأن يلهمك الصواب والرشاد، وأن يجعل عملك خالصًا لوجهه الكريم، وبعد...
فإن ما ذكرتَه أخي أمر يؤثر في نفس كل غيور على بيوت الله وعلى وحدة صف المسلمين. فالمسجد هو قلب المجتمع الإسلامي النابض، وموئل الألفة والمحبة، ومكان السكينة والاطمئنان. وإن رؤية بوادر خلاف أو سماع همسات مشاحنات بين رواده، خصوصًا من كبار السن الذين هم بركة مجتمعنا وقدوته، لهو أمر يستدعي الوقوف والتأمل والبحث عن سبل الإصلاح برفق وحكمة.
إن الشيطان ليحرص كل الحرص على بث الفرقة والنزاع بين المؤمنين، مستغلاً أي ثغرة ليوقع بينهم العداوة والبغضاء، قال تعالى: ﴿إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ والْبَغْضَاءَ﴾ [المائدة: 91]. وقال ﷺ: «إن الشيطان قد أَيِسَ أن يعبده المُصلُّون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم» [رواه مسلم].
إمامنا الفاضل، إن مسؤوليتك عظيمة، ومقامك رفيع، وقد آتاك الله من فضله مكانة في قلوب الناس. وهذا يجعلك بحول الله وقوته، مفتاحًا للخير ومغلاقًا للشر في مسجدك. ولكي تتعامل مع هذا الأمر بحكمة وسداد، إليك بعض الخطوات العملية والروحية التي نسأل الله أن يعينك عليها:
1- الدعاء والتضرع إلى الله:
قبل كل شيء، الجأ إلى الله تعالى بقلب خاشع ولسان ذاكر. أكثر من الدعاء والتضرع إليه بأن يصلح ذات بين هؤلاء المصلين، وأن يلين قلوبهم، وأن يجمعهم على الحق والهدى. تذكر قول الله عز وجل: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة: 186]. فالله قريب مجيب، ولا يرد يدًا رفعت إليه ضارعة.
2- التحلي بالحكمة والرفق:
كن يا أخي ليَّن الجانب، رفيقًا في تعاملك مع الجميع. استمع إلى شكوى كل طرف بإنصات وتفهم، وأظهر لهم حرصك على مصلحة الجميع. تجنب الانحياز إلى طرف دون آخر، وحافظ على مسافة واحدة من جميع المصلين. تذكر قول النبي ﷺ: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه» [رواه مسلم].
3- التذكير بفضائل الأخوة والتسامح:
استثمر خطب الجمعة وكلمات الوعظ والتذكير في المسجد لبيان فضل الأخوة الإيمانية، وعظم منزلة التسامح والعفو، وخطورة الشحناء والخصام. ذكّرهم بقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الحجرات: 10]. واشرح لهم ما في الغيبة والنميمة من إثم عظيم وفساد للمجتمع. قال تعالى: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات: 12].
4- السعي للإصلاح بين المتخاصمين:
بادر بالصلح بين المتخاصمين بشكل مباشر ولطيف. يمكنك أن تجمعهم في جلسة ودية، أو تتحدث مع كل طرف على انفراد بأسلوب مؤثر. بيِّن لكل طرف ما له وما عليه، وحاول تقريب وجهات النظر. استشعر قول الله عز وجل: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ [الحجرات: 9]. واحتسب الأجر العظيم الذي وعد به المصلحون بين الناس. قال ﷺ: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟» قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة» [رواه أبو داود والترمذي].
5- الاستعانة بالحكماء والعقلاء:
إذا رأيت أن الأمر يحتاج إلى تدخل أوسع، فلا تتردد في الاستعانة ببعض العقلاء والحكماء من رواد المسجد أو من خارجهم، ممن لهم كلمة مسموعة وتأثير طيب. يمكن لهؤلاء الإخوة أن يساعدوا في تقريب وجهات النظر وتهدئة النفوس بحكمتهم وخبرتهم.
6- القدوة الحسنة:
كن أنت القدوة الحسنة في التسامح والعفو والصفح. أظهر لهم عمليًّا كيف يمكن تجاوز الخلافات والتركيز على ما يجمعهم من دين وأخوة ومحبة لله ورسوله. ابتسم في وجوههم جميعًا، وأظهر لهم الاحترام والتقدير.
7- الصبر والحلم:
قد لا ترى نتائج جهودك في وقت قريب، فتحلَّ بالصبر والحلم. استمر في النصح والتوجيه والدعاء، ولا تيأس. تذكر أن هداية القلوب بيد الله عز وجل، وأن مهمتك هي البلاغ والسعي في الخير. قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾ [الروم: 60].
وختامًا –فضيلة الإمام- تذكر دائمًا أنك في مهمة عظيمة، وأن الله معك ما دمت تسعى في مرضاته وإصلاح عباده. استعن بالله ولا تعجز، وكن على يقين بأن الله سيؤيدك ويسدد خطاك.
أسأل الله العلي القدير أن يوفقك لما يحبه ويرضاه، وأن يجعل جهودك مباركة ومثمرة، وأسأله سبحانه أن يجمع قلوب رواد مسجدك على الإيمان والتقوى والمحبة، وأن يجعل مسجدكم منارة للهدى والخير، والله ولي التوفيق.