الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : مناهج الدعوة ووسائلها
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
39 - رقم الاستشارة : 2056
24/05/2025
بسم الله الرحمن الرحيم
أنا رب أسرة وعايش في وسط ناس (في الشغل، قرايبي، أصحابي) ممكن تكون آراؤهم وتصرفاتهم مختلفة تمامًا عن قناعاتي الدينية اللي أنا متمسك بيها. على سبيل المثال، ممكن أقابل مواقف ليها علاقة بعادات اجتماعية مش ماشية مع تعاليم ديننا الحنيف، أو نقاشات عن أفكار وقضايا دينية بتتبنى وجهات نظر غير اللي أنا مؤمن بيها. ساعات، ممكن يكون الاختلاف ده في طريقة الحياة أو في بعض الممارسات اليومية اللي مقدرش أشارك فيها.
سؤالي بقى هو:
إزاي أقدر أتعامل مع الناس دي، وأحافظ على الود والعلاقات الكويسة معاهم، من غير ما أتنازل عن مبادئي وثوابتي الدينية؟
وإيه حدود المجاملة الشرعية في المواقف اللي زي دي؟
أهلاً وسهلاً بك أيها السائل الكريم، وأحَيِّي فيك حرصك على دينك وثباتك على مبادئك، وفي الوقت نفسه سعيك للحفاظ على الود والعلاقات الطيبة مع من حولك. هذا التوازن الدقيق هو سمة المؤمن الواعي، نسأل الله أن يثبت قلبك على الحق، وأن يبارك لك في أسرتك، وأن يجعلنا وإياك من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وبعد...
فإنها معادلة صعبة قد تبدو للبعض، ولكن ديننا الحنيف، بما فيه من سعة وحكمة، قد وضع لنا الأسس والقواعد التي تمكننا من اجتياز هذه التحديات بسلام، محافظين على إيماننا وعلاقاتنا.
أخي الفاضل، إن تعاملك مع الناس على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم هو ميدان عظيم للأجر والثواب، وفرصة للدعوة إلى الله بحالك قبل مقالك. وإليك بعض الأسس التي تعينك على هذا التوازن:
1- حُسن الخلق والقدوة الحسنة:
إن أعظم دعوة هي دعوة السلوك. كن أنت المثال الحي لما تدعو إليه من قيم ومبادئ. فإذا رأى الناس منك الصدق والأمانة، واللين والرفق، وحسن المعاملة، والوفاء بالعهد، فإنهم سيحبونك ويحترمونك، حتى وإن اختلفوا معك في الفكر. لقد كان رسولنا الكريم ﷺ أحسن الناس خلقًا، وكان هذا سببًا في دخول كثيرين في الإسلام. وقد مدحه الله عز وجل على ذلك، فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]. فالخُلُق الحسن يذيب الحواجز ويفتح القلوب.
2- الحكمة في التعامل والدعوة:
ليس كل مقام يستدعي الجدال أو التصحيح العلني. أحيانًا يكون الصمت حكمة، وأحيانًا يكون البيان رفقًا. اختر الأوقات المناسبة، والكلمات الطيبة، والأسلوب اللين: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [النحل: 125]. فتذكر أن الهدف هو الهداية، وليس الإفحام أو الانتصار في الجدال.
3- الاعتزاز بالدين دون تعصب أو غلظة:
كن معتزًا بدينك، ثابتًا على مبادئك، ولكن دون أن يكون ذلك مدعاة للتكبر أو احتقار الآخرين. ديننا دين السماحة واليسر، ودين الرحمة للعالمين. فأظهر لهم جمال الإسلام في تعاملك، وفي ثباتك على الحق دون أن تكون فظًّا أو غليظ القلب: ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: 159]. فاللين والرفق هما مفتاح القلوب.
4- التمييز بين اختلاف الرأي واختلاف المبدأ:
هناك مساحات واسعة للاختلاف في الرأي والفهم، وهذا أمر طبيعي في الحياة. تقبَّل أن يكون للآخرين آراؤهم، حتى لو خالفَت رأيك، ما دامت لا تمس ثوابت الدين. أما إذا كان الاختلاف في المبدأ أو في أمر يتعلق بحرام أو حلال، فهنا يأتي دور الثبات على المبدأ مع الحفاظ على الود.
5- الابتعاد عن مواطن الشبهات والمحرَّمات:
إذا كانت هناك تجمعات أو ممارسات تخالف دينك بشكل صريح، فابتعد عنها بلطف وحكمة، دون أن تُشعر الآخرين بأنك تحتقرهم أو تبتعد عنهم بسبب شخصهم. يمكنك الاعتذار بلباقة، أو الانشغال بأمر آخر.
حدود المجاملة الاجتماعية في الأمور الشرعية
المجاملة في الإسلام أمر محمود ومطلوب، وهي من حسن الخلق الذي أمرنا به ديننا. ولكن للمجاملة حدود وضوابط حتى لا تتحول إلى مداهنة أو تنازل عن المبادئ.
1- المجاملة المحمودة:
هي إظهار الود والاحترام للآخرين، ومشاركتهم أفراحهم وأحزانهم، وتهنئتهم في مناسباتهم، وتبادل الزيارات، والكلمة الطيبة، والابتسامة، والسؤال عن أحوالهم. كل هذا يقوي الروابط الاجتماعية ويجعل الناس يتقبلون منك ما تدعو إليه، وقد قال ﷺ: «الكلمة الطيبة صدقة» [متفق عليه]، وقال ﷺ: «تبسمك في وجه أخيك صدقة» [رواه الترمذي وصححه الألباني]. فهذه الأمور من صميم ديننا وتزيد من الألفة والمحبة.
2- المجاملة المذمومة:
إياك أن تتنازل عن الثوابت، فلا تجامل على حساب دينك أو مبادئك. لا توافق على باطل، ولا تبرر منكرًا، ولا تشارك في معصية. إذا كان الأمر يتعلق بحلال وحرام، فلا مجاملة فيه: ﴿فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ [القلم: 8 و9].
وإياك وإقرار المنكر. يمكنك أن ترفض المنكر بقلبك، أو بلسانك إن استطعت وبحكمة، أو بالابتعاد عنه، دون أن يؤدي ذلك إلى قطع العلاقة بشكل كامل إذا لم يكن هناك مفر.
لا تشارك في ممارسات تخالف الشرع، حتى لو كانت بغرض المجاملة. اعتذر بلباقة، واشرح موقفك إذا لزم الأمر، مع التأكيد على احترامك للأشخاص أنفسهم. كذلك لا يجوز الكذب بحجة المجاملة. كن صادقًا دائمًا، فالصدق منجاة.
وختامًا أخي الكريم، إن هذا الطريق يحتاج إلى صبر ومصابرة، ودعاء وتضرع إلى الله. تذكر دائمًا أن الله معك، وأنه سيهديك ويثبتك. اجعل نيتك خالصة لله، وكن سفيرًا لدينك بأخلاقك وسلوكك، وسترى كيف يفتح الله لك القلوب ويسهل لك الأمور.
أسأل الله أن يرزقنا وإياك الثبات على الحق، وحسن الخلق، وأن يجعلنا من الهداة المهتدين، غير الضالين ولا المضلين. وفقك الله وسدد خطاك.