أيُّهما أولى وأعظم أجرًا: حج النافلة أم مساعدة المحتاجين؟

<p>أنا رجل ميسور الحال والحمد لله، وقد وفقني الله قبل سنوات لأداء فريضة الحج. وأجدني في هذا العام قادرًا وراغبًا في تكرار الحج مرة أخرى، اشتياقًا لأجواء الحج وروحانياته، وطلبًا للثواب والفضل العظيم<span dir="LTR">.</span></p> <p>لكن مع اشتداد الأوضاع الاقتصادية في بلدنا، أصبحت أرى من حولي عائلات كثيرة تعاني من ضيق شديد، وبعضها بالكاد يجد قوت يومه، ناهيك عن الأرامل والمحتاجين الذين ينتظرون يد العون<span dir="LTR">.</span></p> <p>فأيهما أولى وأحبّ إلى الله في مثل حالتي؟ أن أؤدي حجًّا نافلة للمرة الثانية، أم أن أوجه هذا المبلغ لمساعدة الفقراء والمحتاجين، خاصة من أعرفهم شخصيًّا ويعيشون في كفاف؟</p> <p>أرجو منكم أن تُبيّنوا لي الأفضلية من جهة الأجر والمصلحة، وهل يدخل هذا في باب تقديم النفع المتعدي على القاصر؟</p> <p><span dir="RTL">وهل إن عدلت عن الحج بنية الصدقة أُعدُّ محسنًا أم مفرِّطًا في خير كبير؟</span></p>

مرحبًا بك أخي الكريم، وجزاك الله خيرًا على تواصلك معنا، وعلى ثقتك الغالية التي نعتز بها، ونسأله –سبحانه- أن يجعل سعيك هذا في ميزان حسناتك، وأن يفتح على قلبك بنور الفقه والرشد، ويبارك لك في مالك وعافيتك، ويرزقك بركة القرار وسداد النية والعمل، ويكتبك من أهل القرب والفضل، وبعد...

 

فما أجمل القلوب حين تتوق إلى طاعة الله! وما أعذب الشوق إذا كان إلى بيته الحرام، حيث الرحمة تنسكب، والدعوات تُستجاب، والقلوب تُغسل من أدرانها على صعيد عرفات، وتُولد من جديد مع تكبيرات العيد. لكن في ذات الوقت، ما أكرم القلوب حين تشعر بآهات الناس، وتتألَّم لجوع الجائعين، وتمُدُّ يدًا كانت قادرة على أن لمس الحجر الأسود؛ لتطمئن يدًا مُرتجفة تطلب لقمة تسد بها جوع أطفالها.

 

سؤالك هذا وإن بدا في ظاهره استفتاءً فقهيًّا فإنه في حقيقته مرآة لقلب حيٍّ، مُتيقِّظ، يجمع بين محبة الله، والرحمة بعباده، بين حب النُّسك، وحب النفع. وهذه منزلة عالية عند الله، أن توازن النفس بين ما تحب فعله وما تعلم أن فيه خيرًا لغيرها. فبوركت على هذا الشعور، ونسأل الله أن يزيدك فقهًا ورحمة.

 

فضل حج النافلة وأثره في القلوب

 

لا شكَّ أن الحج من أعظم القربات، وأجلِّ الطاعات، خصوصًا لمن رزقه الله شوقًا صادقًا ورغبة ملحّة للوقوف مجددًا في تلك المشاعر العظيمة. وقد صحّ عن النبي ﷺ أنه قال: "الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ" [متفق عليه].

 

والحج المبرور هو الذي لا يُخالطه إثم، ويكون فيه إخلاص واتباع. ولا شك أن من كرَّره بنية تعظيم شعائر الله ونيل الثواب، فهو في فضل عظيم إن شاء الله.

 

لكن، ومع عظمة هذه العبادة، لم يُلزِم الله عباده بالحج إلا مرة واحدة. فمن حج، فقد أدّى الفريضة، وما بعده فهو تطوّع.

 

أيهما أحب إلى الله؟

 

هنا يظهر النظر إلى حاجة الناس وشدّة فقرهم، خصوصًا إذا كان الإنسان يعرفهم، ويعيش بينهم، ويرى بعينيه آثار الحاجة والعوز.

 

وفي هذا الباب، تتجلَّى عظمة الشريعة التي توازن بين العبادات الفردية المحضة، وبين القُربات التي يمتد نفعها للآخرين، وتُقدِّم في كثير من المواضع ما فيه نفع متعدٍّ على ما فيه نفع قاصر.

 

وقد قال السلف: "العبادات منها ما نفعه قاصر على العبد، ومنها ما نفعه متعدٍّ إلى غيره، والمتعدي أفضل، ولذلك كان العالم أفضل من العابد".

 

وذكر العلماء قاعدة في هذا الباب تُعين على الترجيح، وهي: "تقديم الواجب العيني أو الكفائي المتأكد على النافل، وتقديم النفع المتعدي على النفع القاصر إذا تعارضا".

 

فإذا كان مال الحج سيُنفق في نافلة، وكان في المقابل هناك مسلم جائع، أو يتيم محتاج، أو مريض لا يجد دواءه، فإن صرف المال لهم هو أولى وأحبُّ إلى الله، بل وأعظم أجرًا، لما فيه من تفريج كرب، وسدِّ حاجة، وإغاثة ملهوف، والله يقول: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9].

 

وقال ﷺ في فضل تفريج الكربات: "مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ» [رواه مسلم].

 

هل تُعدُّ محسنًا أم مفرطًا؟

 

بل أنت، إن شاء الله، من المحسنين الذين يُقدّمون ما فيه رضى الله على ما تهواه النفس وحدها.

 

حين تختار الصدقة على حج النافلة، فأنت لا تترك الحج زهدًا فيه، بل تختار وجهًا آخر من الطاعة أعظم أجرًا في ظرف معيّن. والله يعلم نيتك وشوقك، ويكتب لك أجر الحج بنيّتك، وأجر الصدقة بنفقتك، وقد قال النبي ﷺ: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" [متفق عليه].

 

هل يمكن الجمع بين الخيرين؟

 

لكن إن كان في قلبك شوق عظيم، واشتياق لا يُقاوم إلى الحج مرة أخرى، وأمكنك -دون مشقّة ولا تضييع لحقوق من حولك- أن تجمع بين الأمرين، فتحجّ، وتُخصص كذلك جزءًا معتبرًا من مالك للفقراء والمحتاجين، فذاك فضل الله يُؤتيه من يشاء، وتكون بذلك قد حُزت الفضلين، ونِلت من كل باب خيرًا.

 

فالله –سبحانه- واسع الفضل، يحب أن يرى آثار نعمته على عبده، ويرضى عنه إذا أنفق في سبيله، سواء في الشعائر أو في سدِّ حاجة الناس، ويجعل ذلك كلَّه من سعيه المقبول: ﴿وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [سبأ: 39].

 

وختامًا -أخي المبارك- ما أروع أن تكون الكعبة في قلبك، والرحمة في يدك، والحج في نيتك، والإحسان في فعلك. ولعلَّك إن صدقت النية واحتسبت، تُدرك بحُسن صنيعك من الأجر أعظمه، ومن الرضا أكمله، وتعود إلى بيت الله في عام قادم، وأنت قد سجدت في هذه الأيام في قلوب الفقراء، وجعلت من سد جوعهم قُربى، ومن قضاء حوائجهم سُلَّمًا إلى الرضوان.

 

سِرْ حيث يقودك الإخلاص، بارك الله فيك، وكتب لك أجر الحجاج بنيتك، وأجر المنفقين بمالك. ولا تنسنا في دعائك.