<p>أنا سيدة في منتصف الستينيات وذاهبة للحج هذه الأيام إن شاء الله، مشكلتي في أولادي الذين يعترضون على حجي لأنه سبق لي الحج، وقالوا لي بشكل صريح إنهم أولى بهذا المال، واتهمني واحد منهم أنني أتعمد إنفاق المال حتى لا أترك لهم ما يرثونه!</p> <p>والحقيقة إنني قمت بأداء الفريضة منذ سنوات طويلة، وشعرت أنني أريد الحج مرة أخرى قبل أن ألقى الله تعالى.. وأولادي أنا لم أقصر معهم أبدا، فكل منهم متزوج ولديه أبناء كبار وحياة خاصة ليس لي مكان فيها.</p> <p>أنا أعلم أن بعضهم يعاني من ظروف مادية خانقة وأنا أساعدهم قدر طاقتي، لكنني أشعر دائما أنهم يطمعون فيّ، ودائما يريدون المزيد وأنا حزينة للغاية.. فهل من نصيحة؟</p>
أمي الكريمة، أهلاً وسهلاً ومرحبًا بك على صفحة البوابة الإلكترونية للاستشارات الخاصة بمجلة المجتمع، وتقبل الله حجك وغفر ذنبك وأخلف عليك نفقتك، وإن شاء الله تعالى تعودين من الحج بصحة وعافية وذنب مغفور وصفحة جديدة في حياتك.
من حقك أيتها الأم الكريمة أن تذهبي للحج حتى لو سبق لك وأديت الفريضة، وليس من حق أولادك الغضب من ذلك أو حتى مراجعتك فيه..
أمي الكريمة، نموذج الأم المنسحقة التي ليس لها رغبات شخصية إلا إشباع رغبات أبنائها نموذج خاطئ يعلم الأبناء الأنانية والأخذ دون العطاء، فمن حقك أن تعيشي حياة كريمة (ولو أنك لا تملكين المال فيجب عليهم أن يوفروا لك هذه الحياة الكريمة)، ومن حقك أن تنفقي مالك بالطريقة التي تناسبك طالما أن المال لا ينفق سفهًا.
بين الحنان والحزم
إذا كان نموذج الأم المنسحقة يؤدي إلى أم فاقدة القدرة على اتخاذ القرار وأبناء أنانيين، فإن نموذج الأم الحنون هو النموذج الإنساني الأرقى على الإطلاق، والأم الحنون تستطيع أن تكون حازمة عندما يتطلب الموقف حزمًا.
انظري إلى أسماء بنت أبي بكر وابنها عبد الله بن الزبير وكانت العلاقة بينهما عميقة للغاية؛ فأسماء نموذج للحنان الخالص، ولكن انظري لحزمها في المواقف الحاسمة (دخل ابن الزبير على أمه أسماء بنت أبي بكر، في اليوم الذي قتل فيه، وقد رأى من الناس ما رأى من خذلانهم، فقال: يا أمه: خذلني الناس حتى ولدي وأهلي، فلم يبق معي إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع أكثر من صبر ساعة، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: أنت والله يا بني أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامضِ له، فقد قُتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك يتلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا، فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك، وأهلكت من قُتل معك، وإن قلت: كنت على حق، فلما وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن، والله لضربة بالسيف في عزٍّ، أحب إليّ من ضربة بسوط في ذلٍّ، قال: إني أخاف إن قتلوني أن يمثلوا بي، قالت: يا بني إن الشاة لا يضرها سلخها بعد ذبحها؛ فدنا منها وقبّل رأسها، وقال: هذا والله رأيي، والذي قمت به داعيًا إلى يومي هذا).
كانت أسماء مريضة متألمة، فلقد توفيت بعد عبد الله بأيام قليلة، وكانت قد بلغت من العمر الكثير، حتى أن بعض الروايات تتحدث أنها كانت تقترب من المائة عام، ولكن على الرغم من ذلك كانت صلبة حازمة، وفي الوقت ذاته تقطر كلماتها حبًّا وحنانا، هل لك أن تتخيلي نبرة صوتها وهي تقول لرجل مثل عبد الله بن الزبير يا بني؟ وهل تدركين عمق العلاقة بينهما عندما يكون تقبيل رأسها آخر ما يقوم به قبل المعركة؟ هذا هو ما أريد لعلاقتك بأولادك أن تكونه.
دعاء وتواصل
أريدك أن تدعي الله كثيرًا، خاصة يوم عرفة، أن يهدي أولادك ويرزقك برهم ويرزقهم الخير كله؛ المال والصحة والعافية والأبناء البررة.. ادعي لهم بإخلاص وثقي أنهم سيستقبلونك بوجه غير الذي ودّعوك به.
أمي الحبيبة.. لا شك أن أبناءك أخطأوا حتى وصل الأمر إلى مشاعر الحزن التي تعيشينها وقد يوسوس لك الشيطان أن تدعي عليهم، وأنت تعلمين أن دعاءك عليهم مستجاب (ثلاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَات لاَ شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ المَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ المُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ)؛ لذلك حذر النبي من الدعاء على الولد، لأن الوالد هو أول من سيحزن إذا استجاب الله لهذا الدعاء (لاَ تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَوْلاَدِكُمْ، وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لاَ تُوَافِقُوا مِنَ اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ).
أمي الكريمة، يسري على أبنائك برك، والتيسير يبدأ من الدعاء لهم حتى يشرح الله صدورهم ويوفقهم لبرك.. ادعي لهم في أوقات الاستجابة وادعي لهم أمامهم بما يطمحون له...
التيسير أيضا يعني أن تتحدثي معهم برفق حديث يمزج العقل بالعاطفة.. واسيهم بمالك قدر استطاعتك، واحتسبي ذلك أو كما قال ﷺ: (الصدقة على المسكين صدقة، وهي على الرحم صدقة وصلة).
أبناؤك وأحفادك جزء منك فتعاملي معهم على هذا الأساس، ولكن وفقًا للحدود التي وضعتها أنت أولا.. أما من أخطأ معك في الكلام، فاطلبي منه أن يعتذر، ولكن لا تغضبي عليه، ادعي له بمزيد من الهداية.
وأخيرًا، لا أريد للحزن أن يستوطن قلبك الطيب، فأنت تبذلين جهدك كي تيسري على أولادك برك، ولكن القلوب بيد الله تعالى؛ فاقبلي إرادة الله وكوني كيعقوب الذى سامح أبناءه رغم عظم جريمتهم {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
أمي الغالية، تواصلي معهم قبل حجك وادعي لهم، ولا تسمحي بأي تجاوز، ثم سافري في رعاية الله لا يشغلك إلا أن يكون حجك صحيحًا وتقتربين فيه من الله سبحانه وتعيشين روحانية الحج بقلبك وجوارحك.. وفقك الله تعالى لكل خير، وتابعيني بأخبارك.