أيهما أولى حج التطوع أم النفقة على الفقراء؟

<p>أيهما أولى في هذه الأيام حج التطوع وتكرار العمرة ام الصدقة على الفقراء والمساكين أو المشاريع الخيرية التي ينفق منها على المرضى الفقراء وطلبة العلم وغير ذلك؟</p>

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن والاه، وبعد:

 

ففي هذه الأيام التي يكثر فيها التزاحم على أداء هذه الفريضة -المحببة إلى نفس كل مؤمن– حتى يصل الأمر إلى إزهاق النفوس أحيانا، ويتحايل المسلمون على تكرار أداء هذه الفريضة وفي الوقت نفسه تتضور بعض الشعوب جوعًا فلا تكاد تجد ما يقيم الأود أو يسد الرمق، ومن ثم تكون الأولوية هنا للنفقة على الفقراء والمساكين وأن يكون المسلم سببًا في إحياء النفوس، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس حميعًا.

 

يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في فتوى مشابهة:

 

ينبغي أن يُعلم أن أداء الفرائض الدينية أول ما يطالب به المكلف، وبخاصة ما كان من أركان الدين، كما أن التطوع بالنوافل مما يحبه الله تعالى، ويقرب إلى رضوانه.

 

وفي الحديث القدسي الذي رواه البخاري: "ما تقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به..." الحديث.

 

ولكن ينبغي أن نضع أمام أعيننا القواعد الشرعية التالية:

 

أولا: أن الله تعالى لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة، وبناء عليه نرى أن كل من يتطوع بالحج والعمرة وهو –مع هذا– يبخل بإخراج الزكاة المفروضة عليه كلها أو بعضها، فحجه وعمرته مردودان عليه، وأولى من إنفاق المال في الحج والعمرة أن يطهره أولا بالزكاة.

 

ومثل ذلك من كان مشغول الذمة بديون العباد من التجار وغيرهم، ممن باع له سلعة بثمن مؤجل فلم يدفعه في أوانه، أو أقرضه قرضًا حسنًا، فلم يوفه دينه، فهذا لا يجوز له التنفل بالحج أو العمرة قبل قضاء ديونه.

 

ثانيًا: أن الله لا يقبل النافلة إذا كانت تؤدي إلى فعل محرم؛ لأن السلامة من إثم الحرام مقدمة على اكتساب مثوبة النافلة.

 

فإذا كان يترتب على كثرة الحجاج المتطوعين إيذاء لكثير من المسلمين، من شدة الزحام مما يسبب غلبة المشقة، وانتشار الأمراض، وسقوط بعض الناس هلكى، حتى تدوسهم أقدام الحجيج وهم لا يشعرون، أو يشعرون ولا يستطيعون أن يقدموا أو يؤخروا ـ كان الواجب هو تقليل الزحام ما وجد إلى ذلك سبيل.

 

وأولى الخطوات في ذلك أن يمتنع الذين حجوا عدة مرات عن الحج ليفسحوا المجال لغيرهم، ممن لم يحج حجة الفريضة.

 

وقد ذكر الإمام الغزالي من الآداب التي يجب أن يراعيها الحاج: ألا يعاون أعداء الله سبحانه بتسليم المكس لهم (وهو ضريبة تؤخذ ظلمًا) وهم الصادون عن المسجد الحرام من الأعراب المترصدين في الطريق وغيرهم، فإن تسليم المال إليهم، إعانة على الظلم، وتيسير لأسبابه عليهم، فهو كالإعانة بالنفس، فليتلطف في حيلة للخلاص، فإن لم يقدر فقد قال بعض العلماء ـ ولا بأس بما قالوه ـ إن ترك التنفل بالحج والرجوع من الطريق أفضل من إعانة الظلمة.

 

ولا معنى لقول القائل: إن ذلك يؤخذ مني وأنا مضطر، فإنه لو قعد في البيت، أو رجع من الطريق لم يؤخذ منه شيء، فهو الذي ساق نفسه إلى حالة الاضطرار.

 

وشاهدنا من هذا النفل: أن التنفل بالحج إذا كان من ورائه ارتكاب محرم، أو مجرد معاونة عليه، ولو غير مباشرة، غير محمود ولا مشروع، وتركه أولى بالمسلم الذي يسعى لإرضاء ربه، وهذا هو الفقه النير.

 

ثالثا: أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وخصوصًا إذا كانت المفاسد عامة، والمصالح خاصة.

 

فإذا كانت مصلحة بعض الأفراد أن يتنفل بالحج مرات ومرات، وكان من وراء ذلك مفسدة عامة للألوف ومئات الألوف من الحجيج مما يلحقهم من الأذى والضرر في أنفسهم وأبدانهم حتى أن هؤلاء المتنفلين أيضا يتأذون من ذلك، كان الواجب منع هذه المفسدة بمنع ما يؤدي إليها وهو كثرة الزحام.

 

ومفسدة أخرى، وهي: الجور على حق المسلمين والمسلمات، الذين لم يتح لهم حج الفريضة، فهؤلاء الذين يكررون حجهم أخذوا مكانهم، وبقي طالبو حج الفريضة ينتظرون الفرصة، ليخرج سهمهم في القرعة. فلو قل المتطوعون لزادت المساحة واتسعت لأولئك الذين لم يحجوا قط.

 

رابعا: إن أبواب التطوع بالخيرات واسعة وكثيرة، ولم يضيق الله على عباده فيها، والمؤمن البصير هو الذي يتخير منها ما يراه أليق بحاله، وأوفق بزمانه وبيئته.

 

فإذا كان في التطوع بالحج أذى أو ضرر يلحق بعض المسلمين –فقد فسح الله للمسلم مجالات أخرى، يتقرب بها إلى ربه دون أن يؤذي أحدًا.

 

فهناك الصدقة على ذوي الحاجة والمسكنة، ولا سيما على الأقارب وذوي الأرحام فقد جاء في الحديث: "الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة"، وقد تكون نفقتهم عليه واجبة، إذا كان من أهل اليسار وهم من أهل الإعسار.

 

وكذلك على الفقراء من الجيران، لما لهم من حق الجوار بعد حق الإسلام، وقد ترتفع المساعدة المطلوبة لهم إلى درجة الوجوب، الذي يأثم من يفرط به. ولهذا جاء في الحديث: "ليس المؤمن من بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع".

 

وهناك الإنفاق على الجمعيات الدينية، والمراكز الإسلامية، والمدارس القرآنية، والمؤسسات الاجتماعية والثقافية التي تقوم على إرساء دعائم الإسلام، ولكنها تتعثر وتتخبط، لعدم وجود من يمولها ويعينها، على حين تجد المؤسسات التبشيرية مئات الملايين من الدولارات أو الجنيهات أو غيرها من العملات، ترصد لها، ولإنجاحها في سبيل التشويش على الإسلام، وتمزيق وحدة المسلمين، ومحاولة إخراج المسلم عن إسلامه، إن لم يكن إدخاله في النصرانية، المهم زعزعة إسلامه وإن بقي بغير دين.

 

وإخفاق كثير من المشروعات الإسلامية ليس لقلة مال المسلمين، فمن الأقطار الإسلامية اليوم ما يعد من أغنى بلاد العالم، ولا لقلة أهل الخير والبذل فيهم، فلا يزال يوجد في المسلمين الخيرون الطيبون، ولكن كثيرًا من البذل والإنفاق يوضع في غير موضعه.

 

ولو أن مئات الألوف الذين يتطوعون سنويا بالحج والعمرة رصدوا ما ينفقون في حجهم وعمرتهم لإقامة مشروعات إسلامية، أو لإعانة الموجود منها، ونُظم ذلك تنظيمًا حسنًا، لعاد ذلك على المسلمين عامة بالخير وصلاح الحال والمآل، وأمكن للعاملين المخلصين للدعوة إلى الإسلام أن يجدوا بعض العون للصمود في وجه التيارات التبشيرية والشيوعية والعلمانية وغيرها من التيارات العملية للغرب أو الشرق، التي تختلف فيما بينها، وتتفق على مقاومة الاتجاه الإسلامي الصحيح، وعرقلة تقدمه، وتمزيق الأمة الإسلامية بكل سبيل.

 

هذا ما أنصح به الإخوة المتدينين المخلصين الحريصين على تكرار شعيرتي الحج والعمرة أن يكتفوا بما سبق لهم من ذلك، وإن كان لا بد من التكرار، فليكن كل خمس سنوات، وبذلك يستفيدون فائدتين كبيرتين لهم أجرهما:

 

الأولى: توجيه الأموال الموفرة من ذلك لأعمال الخير والدعوة إلى الإسلام، ومعاونة المسلمين في كل مكان من عالمنا الإسلامي، أو خارجه حيث الأقليات المسحوقة.

 

الثانية: توسيع مكان لغيرهم من المسلمين الوافدين من أقطار الأرض، ممن لم يحجوا حجة الإسلام المفروضة عليهم، فهذا أولى بالتوسعة والتيسير بلا ريب، وترك التطوع بالحج بنية التوسعة لهؤلاء، وتخفيف الزحام عن الحجاج بصفة عامة، ولا يشك عالم بالدين أنه قربة إلى الله تعالى، لها مثوبتها وأجرها "وإنما لكل امرئ ما نوى".

 

ومما يذكر هنا: أن جنس أعمال الجهاد أفضل من جنس أعمال الحج، وهذا ثابت بنص القرآن، يقول تعالى: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ وَعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ﴾ (التوبة: 19- 20).

 

والله تعالى أعلى وأعلم